ما أجمل التسوق بعد يوم شاق، العمل كان في أوجه، ما قلل الاحتكاك بهم قدر المستطاع، والأهم من ذلك أن وقتاً جميلاً بانتظاري، فما إن دقت ساعة انتهاء العمل، حتى حملت أغراضي على عجل، وفرغت مكتبي بسرعة البرق، أظن أن المدير ينظر إلي باستغراب شديد فاغراً فيه، أعرفه جيداً!
كنت في غاية الحماس، حتى أوقفني صوت عمر آخر الممر، لأعود بذاكرتي لتلك المأساة العجيبة، الشقيقة المتوفية الغير موجودة أساساً!
- مجدولين!
تجمدت مكاني، ونظرت نحوه ببطئ مترقبة، فأردف:
- أذاهبة بهذه السرعة؟!
- آه!
تذكرت أن علي التمثيل، علي التمثيل جيداً!
- الحقيقة لدينا ضيوف كثر اليوم، يجب أن أذهب لأساعد والدتي!
- آه! فهمت.
ثم أخفض نبرة صوته:
- المعذرة!
وتراجع بخجل، حتماً لم أفهم ما يعنيه ذلك، هل هو نادم على سؤالي، أم أنه نسي حقاً أن لدي شقيقة متوفية، أم جاء لاختباري كون الشكوك تحوم حولي هذه الفترة؟ لا أدري حتماً، لكن ما علي التفكير به الآن هو اللحاق بصديقاتي.
...
بالكاد وصلت، أخذت ألفظ أنفاسي بصعوبة، حين سمعت صوت مي:
- ربما فكرة التسوق بعد العمل لم تكن جيدة!
- آه!
أخذت أستوقفها:
- لا، لا ... أبداً، أبداً.
فتلقيت صفعة قوية على ظهري ليخرج هتاف رؤى وسونيا معاً:
- هذه آية التي نعرفها !!!
- رباه! بنات!
صرخت بذعر، فضحكن، فابتسمت بوداعة، حقاً صحبتهن لا تجلب سوا المصائب!
سرنا على طول الشارع، المحال مرتبة بشكل منتظم وجميل، فها هي النوافذ الزجاجية التي تجلس داخلها العارضات المعدنية يرتدين ملابس متناسقة، والزجاج الذي يكشف عن مقهى أو مطعم تخرج منه روائح شهية، وهناك من أخرج صاجاً وترك الرائحة تنتشر في الأجواء بحرية، محال التجميل المبهرجة والتي كلما مررنا من جانبها انبهرنا لجمالها رغم أنها مشهورة بديكورها وألوانها في كل مرة، لكن حتى مع لمعان مواد التجميل في الأرجاء تشعر بنشوة فظيرة لاارادية لها.
وصلنا المتجر المنشود، وكالعادة تختار مي ثوباً بسيطاً بسعر خيالي، حتماً لا أعرف مشكلتها، يمكننا أن نشتري بهذا السعر أكواماً من الثياب التي ستدوم لسنوات، أما هذا الفستان، فأراهن أنه بعد مناسبة واحدة وسيندثر داخل الخزانة. هاه! هذه مي! لا يمكن تغييرها.
ارتدت الثوب مرة أخرى، لا أعلم كم مرة عادت لقياسه، ترتدي ثوباً آخر وتعود إليه، رؤى جلست على إحدى مقاعد مكتب المحاسبة من شدة تعب الانتظار، أما سونيا فكانت تشجعها وتنبهر في كل مرة ترتدي فيها فستاناً.
"سونيا! هذا ليس وقت المجاملة، أقدامنا لم تعد تقوى على حملنا"
في النهاية اشترت مي فستاناً آخر غير الفستان الذي أرادت شراءه، فكرت في نفسي أنني فهمت الآن لم طلبت سونيا من رؤى الدراسة قبل التسوق، فنحن بمعرفتنا طبع مي ننسى أحياناً أخذ احتياطاتنا! يا له من اهمال!!!
سرت بجانب رؤى التي يبدو عليها امارات الانهاك والتعب، بينما تملكتني الدهشة لدى رؤيتي لمي التي مشت مع سونيا أمامنا تقفز وتمرح وتغني بسعادة، رباه! من أين لها هذه الطاقة!!
- مي تبدو سعيدة جداً
علقت رؤى بشيء من الخيبة، فأجبتها:
- بالتأكيد، فهي حصلت على ما تريده، ألا تريدين منها أن تكون سعيدة؟!
- رباه! آية! قدماي تؤلمانني!
- آه! أجل أعرف!
لكنني لا أستطيع فعل شيء لك رؤى، أنا آسفة!
حينها علقت مي:
- لمَ لا نتوقف هنا، لنأكل على حسابي!
لا أستطيع تخيل النور الذي عاد إلى عيني وقتها، وكأن ذلك الجهد والتعب تبخر كما تتبخر المياه الجليدية بعد أن يسكب عليها الماء الساخن، شعور الراحة هذا لا يأتي إلا في مثل تلك الأوقات، حين تأكل مي بوقتها في التسوق من أجسادنا، ثم تكافؤنا بوجبة دسمة على حسابها.
لم أكن وحدي من شعر بذلك، أتصور أن رؤى أكثر من شعر بتلك الراحة، فهاي هي عيناها تلمع بنجوم متلألأة، حسناً، حسناً، هي تستغل هذا الوقت للانتقام، وتطلب أغلى وجبة في المكان سواء كانت لذيذد أم لا، فقط لمجرد الانتقام، وحين لا يحالفها الحظ وتكون الوجبة من ضمن احتمالية الغير لذيذ تمتنع عن تناولها، فتشتاظ مي غضباً، والآن هي تمسك أعصابها بعد رؤيتها لرؤى ونجوم عيناها المشعتان بالانتقام.
بينما نحن نجلس نجهز طلباتنا، علقت سونيا:
- رؤى!
فنظرنا جميعاً نحوها بدهشة، حتى أنا نفسي تملكتني الدهشة والفضول.
- لو كنت مكانك لاخترت طبقي المفضل مهما كان سعره، فالأهم من ذلك أن تستمتعي!
- سونيا!!
لمعت عينا مي كمن تم انقاذه من الغرق:
- يا منقذتي!
- هيه!
بدا على رؤى الانزعاج:
- اذا كان الأمر كذلك، فأنا أريد تدليكاً لقدمي مع الوجبة، فهما كما ترين يشعان حمرة من شدة الألم.
- هكذا اذا!
نظرنا نحو مي باستغراب، حين أردفت بمرح:
- لم لا نذهب إلى الساونا اذاً هذه المرة!
- حقاً!
هتفنا معاً.
- أجل!
أجابت بكل ثقة، فهرعنا بسرعة كمن يسير على عجلات نحو ساونا قريب من المكان، ولأول مرة نشعر بنعيم لا نشعر به في كل مرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق