الاثنين، 10 أغسطس 2020

الفصل التاسع والثلاثون

 على سريرها، تتربع اللؤلؤة بين يديها الرقيقتين، تلمع مع كل طرفة عين، تحدق بعيونها البلهاء الكبيرة نحوها، إلا أنها شردت بلونها الأزرق الفاتر الذي يذيب قلبها من الدفئ، تذكرها بلون البركة التي كانت تجلس أمامها أعلى التلة، تتابع الأطفال يتراشقن المياه بمرح، أسفل تلك الشجرة حين التقت به.

تنهدت، ثم نظرت نحو النافذة، الستائر تضفي جواً من الخشوع بين خلفية السماء الصافية، الجو ملائم لتنزه، لكنها خسرت الكثير من الوقت وعليها أن تعود إلى عملها. طرق الباب ودلفت كريستينا حين كانت نورس تنظر نحو نفسها النظرة الأخيرة في المرآة، اتجهت نظراتها نحو كريستينا التي بدت مرهقة، تحمل رداءها الأبيض الملطخ ببقع الدماء، وجهها شاحب وهالات التعب جليةُ آسفل عينيها.

- رباه!

أخذت تتذمر بعد أن ارتمت على سريرها:

- من يريد الدراسة في وقت كهذا.

ثم نظرت نحو نورس التي كانت على وشك المغادرة، فرفعت أنملتها مشيرة نحوها، ذراعها ترتجف من التعب وقالت باستنكار:

- وأنت!

ثم ارتمت على السرير مجدداً وهي تتنهد:

- رباه!

خرجت نورس على الفور، وأغلقت الباب بحذر، هي تعلم تماماً حالة كريستينا حين تعود من درس الجراحة، تتصرف كالسكيرة ولا يمكن إيقافها، لذا قررت أن تنفد بريشها قبل أن تلتهمها. عبرت الممر بهدوء، ونزلت السلالم الوحيدة المؤدية إلى ساحة الاستقبال الكبيرة، بعض العاملات يرتبن طاولات خشبية، وبعضهن يهرعن المكان جيئاً وذهاباً، شعرت نورس بالغرابة فهي لا تتذكر أن لديهم حدث مميز اليوم، لذا تجاهلت الأمرت وتابعت مسيرها نحو المختبر.

في المختبر، قاعة فسيحة من طابقين، طابق يحيط المساحة الأرضية بأطرافها ما يسمح برؤية الطرفين، في الأعلى يجتمعن الفتيات حول طاولات عليها العدد والأدوات، والساحة الأرضية يجلسن الفتيات كما المكتبة، التهمت العيون نورس لدى دخولها القاعة، وشعرت بها تنهشها بفضول، ثم أخذت الهمسات تتوالى إلى مسامعها:

- من تكون تلك الفتاة؟

- لا أعلم، ولكن أن يأتي القائد الأعلى لإنقاذها ...

- هل ربما أتت من القصر؟

- أوه، رباه! هل هذا يعني أنها هنا لمراقبتنا؟

- لابد أن لها أهمية كبيرة بعودتها سليمة!

أخفضت نورس رأسها وزمت شفتيها بحرج، حاولت أن تتنفس بعمق لتهدأ من رعبها، حتى خرج صوت نتالي حازماً:

- يا للهراء!

رفعت رأسها لتجد نتالي تقف أمامها تخاطب الفتيات بينما تقف كلاً من كاثرين وجولييت، حين أردفت نتالي:

- بدلاً من أن تكن شاكرات لعودتها على قيد الحياة؟ تثرثرن بالهراء! هل ستتطوع واحدةُ منكن لتكون مكانها؟

طأطأت الفتيات رؤوسهن واحدةً تلو الأخرى، ثم خرجت الهمسات:

- آسفات ... نحن نعتذر

ولملمن أنفسهن وعادت كلٌ منهن إلى دراستها، ثم التفت نتالي نحو نورس، وابتسمت بلطف:

- لا تقلقي، إن أردتِ إخبارهن بشيء، فيمكنني أن أتكلم عنكِ!

ربت على كتفها برفق، وهمت منصرفة تتبعها زميلاتها، بينما بقيت نورس متجمدة مكانها لا تطرف طرفة عين، تتلألأ عيناها بدموع عالقة لا تتجرأ على التمرد. بقيت على حالها بضع دقائق، ثم استعادت وعيها مع أصوات حركة الفتيات، وهمت نحو طاولتها تستعد للدراسة.

...

ما إن قاربت الدروس على الانتهاء، حتى تم استدعاءهن للامتثال في قاعة الاستقبال، تبادلن الفتيات النظرات المتسائلة، يبدو أن أحداً لا يعرف ما يجري، ما جعل استيعابهم للأمر بطيئاً. سارت الفتيات نحو القاعة، الكثير من الفتيات تجمعن من مختلف المجالات، فها هي نورس ترى كريستينا بين زميلاتها، لكنها تبدو كالزومبي من الإرهاق، لم تستطع نورس أن تكتم ضحكتها فزمت شفتيها على مضض لتجنب أي حركة ملفتة للنظر، ثم أخذت الهمسات المتسائلة تتعالى، وهن ينظرن نحو الطاولات التي استحوذت على المكان، وعلى الأغطية الورقية التي تعلوها، عليها أدوات لا يمكن لحد التنبؤ بأنها ستكون موجودة.

- انتباه!

صفقت نتالي بيدها وهي تقف أعلى السلالم في محاولة لاستراق انتباههن، وما إن هدأن، نظروا نحوها بعيون تلمع من الفضول.

- بما أننا مررنا بحادثة صعبة، أتوقع أنها أرهقت الجميع، قرر مجلس الطلبة أن نمارس معاً هذه الفعالية.

لمعت عيون بعض الفتيات بمرح، وانبسطت ملامحهن بسعادة، وأخذ ينظر البعض الآخر إلى الأدوات ويحاول تخمين هذه الفعالية، لكن سؤالهن لم يطل الإجابة، فشرحت نتالي على الفور:

- سنقوم بصنع الكعك معاً.

- إيـــه!

تهافتن، فنظرت نتالي نحوهن بدهشة، بينما تخفي جوليت وجهها بيدها بحسرة وألم، لكن نتالي ابتسمت وقالت بمرح:

- ماذا؟ ألم تخبزن كعكاً في حياتكن؟ إنها مثل التجربة الكيميائية.

تومض أعين الفتيات باستغراب، حين غمزت نتالي كاثرين وسألتها بتردد:

- أليس .. كذلك؟

- أجل أيتها الرئيسة.

أجابتها كاثرين بذلك الوجه الباسم على الفور، ابتسامتها الواسعة تجعل وجهها مضحكاً، شعرت نتالي بسخرة في إجابتها، لذلك همت تصفق بحزم:

- هيا! تحركن! أريد تناول كعكٍ لذيذ! هيا!

تدافعت الفتيات نحو الطاولات وأخذن العاملات بتوجيههن ومساعدتهم، بدا الأمر غريباً للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما تناثر الدقيق أرجاء المكان وانهمكن الفتيات بالعمل وانسجمن معاً، بعضهن أخذن يلقين النكات، وأخريات يدندن بمرح، أخريات يتمازحن مع صديقاتهن بتلويثهن بالدقيق، وأخريات يثرثرن عن الكعك الذي يتطلعن لتناوله، رؤية ابتساماتهن جعلن نتالي تشعر بالرضا وهي تقف مكانها، كما أن جولييت توقفت عن إخفاء وجهها ونظرت نحو المكان بذهول.

- أخبرتك!

علقت نتالي بفخر:

- لا يوجد أفضل من صنع الحلويات كنشاط لتخفيف القلق.

- تبهرني أفكارك العجيبة أيتها الرئيسة.

علقت جولييت ببرود تشوبه السخرية، فنظرت نحوها نتالي بكل فخر:

- إنها تعجبكِ دائماً.

ثم تقدمت مبتعدةً عن المكان، حين نظرت جولييت نحو كاثرين التي لا تزال تبتسم تلك الابتسامة المضحكة، ما إن رأت نظرات جولييت الحادة حتى فردت ملامحها وأخذت تصفر بلامبالاة، تنهدت جولييت وهمت تنزل السلالم لتقترب من الفتيات، ما إن رأتها كاثرين تبتعد، حتى لحقت بها على الفور.

...

انهمكن زميلات نورس بعملهن بينما كن يثرثرن بسعادة ومرح، ويبدو أن الحديث يجذب الكثيرات بالقرب منهن، حين خرج صوت إحداهن:

- لكن من كان يتوقع أن نرى القائد الأعلى عن قرب، كانت تدور حوله الكثير من الشائعات.

- شائعات؟

- ألم تعرفن؟ يقولون أنه كان مختفياً عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يدخل القصر.

- ولكن أليس هذا حال أي قائد؟

- بلى، لكن خلفيته مبهمة، يقول البعض أن خلفيته دموية، كما أنه نجا من الموت.

- لا شك في ذلك، فهو قوي جداً.

- آه، ألم تري كتفيه العريضين، يجعلني أريد تدليكهما.

هتفت الفتيات بخجل:

- رباه!

- لا تبدأي!

بينما كل كلمة يقلنها تجعل نورس أشد غضباً، حاولت أن تصب غضبها على العجين، لكنها كادت تفقد أعصابها فهمت منسحبة، وتوجهت بسرعة نحو الممر المؤدي إلى غرفتها، ما إن وصلت الباب، حتى ركعت على الأرض وضرب رأسها وقبضتها على الباب، وصرخت في نفسها:

"ما خطبي؟"

ثم أمسكت رأسها، وأخذت تقنع نفسها:

"ليس وكأنني أهتم، ليس وكأننا سنكون معاً"

ما إن خرجت كلماتها الأخيرة، حتى شعرت بحرقة تتوغل قلبها، وأجهشت ببكاء مرير.

...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق