يجلس روهان على مكتبه شابكاً بأنامله، بينما يتكئ برأسه عليها، أمامه ورقة منفردة، يتأملها بنظرات مشمئزة، بينما تخرج منه هالة مرعبة، لشدة رعبها انتقلت تلك الهالة للورقة فجعلتها تتطاير في ذعر، الهالة التي تحيط الغرفة جعلت الخدم وأصدقاءه من الجنود يتجنبوها لا محالة، بينما يعودون بساقين مرتجفتين.
أحتى رأسه بخفة وخرج صوته مستميتاً:
- لم تنتابني رغبة عارمة برؤيتها!
ثم رفع رأسه واتكأ به على ظهر الكرسي، وأطال بنظره نحو السقف، لتتلألأ الثريا وتتلألأ معها عيناه، وكأن ذلك البريق يسيطر على عينيه، يأسرهما بسحره، فهو كبريق عينيها. شرد بتفكيره لوهلة، أغلق عينيه ثم ابتسم، وهدأت الهالة المرعبة حوله، ثم فتح عينيه ونهض، أمسك بسيفه الذي يتركه على جانب الرف وخرج من غرفته، يبدو عليه الانتعاش لقرار حاسم، بينما ابتعد الخدم المتناثرين في الأرجاء ينظرون نحوه بدهشة ثم يرمقون بعضهم بنظرات تساءل لا إجابة لها.
...
دخلت غرفتها بعد ليلة طويلة ومرهقة كالمعتاد، فتحت الباب بهدوء وطرقته بهدوء كي لا تزعج زميلتها في الغرفة، فالوقت أصبح منتصف الليل، هذه المرة سلبها الوقت حقاً بالكاد تشعر بجسدها، الجلوس الطويل يبسه وجعلها كاللعبة الخشبية. إلا أنها اتجهت نحو الخزانة الصغيرة بجانب سريرها، فتحت الصندوق الخشبي الصغير وأمسكت القلادة بين يديها، نظرت نحوه تلكل اللؤلؤة التي تلمع خلال الظلام وكأنها النور الوحيد في تلك الغرفة، ترسل شعاع دافئاً نحوها يشعرها بالتحسن، ضمت اللؤلؤة إلى صدرها، وأخذت نفساً عميقاً، ليفاجأها صوت طرق على النافذة.
الهدوء والسكون في المكان جعل طوت النقر مفزعاً، نظرت نورس نحو صديقتها النائمة عدة مرات لتتفحصها بقلق، ثم همت تفتح النافذة بحذر، لتجد حمامة صغيرة تطرق برأسها النحيل، ولأنها لم تلحظ فتح النافذة طرقت برأسها لتصطدم بأناملها، سحبت نورس يدها بذعر، نقرتها قارصة إلى حد مفزع وكأنها لسعة كهربائية، شعرت بالدموع تخرج من عينيها وحاولت أن تلعق مكان الإصابة بلسانها لعل تأثيرها يخف. ثم لاحظت أن الحمامة لا تزال تنقر برأسها، وتتحرك بشكل آلي، ربما شيء ما على رأسها يزعجها، حملت الحمامة بحذر ورفعتها نحوها ليلمع شيء ما على عنقها فجأة فيشوش رؤيتها، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها ولا تسقط الحمامة التي على يدها، ثم حركت رأس الحمامة لتلمس طوقاً من الذهب المنقوش حول عنقها.
"أي شخص متحجر القلب يمكن أن يضع مثل هذا الشيء الثقيل على عنق حمامة صغيرة"
همست في نفسها بغضب، لتفكه عنها بسرعة، وتجد لفافة ورقية تتدلى منها برشاقة، فتحت اللفافة بدهشة، ثم شهقت لمعرفتها بهوية ذلك الشخص متحجر القلب الذي تحدثت عنه، شعرت بقلبها يخترق صدرها وهي تقرأ اللفافة، عيناها ارتخت وذرفت الدموع بجشاعة، وبدأت تسمع نبضات قلبها تخرج من أذنيها، شعرت بصدرها يضيق فأمسكت به بتلقائية، لم تعد تستطيع حمل ساقيها، فارتخت على ركبتيها وغطت ثغرها لتخفي شهقاتها وأجهشت بالبكاء.
...
الرياح تهب باندفاع شديد، حتى أنها لم تعد تسيطر على ساقيها، تسحبها الرياح بعيداً على قمة التلة، بينما تبدو السماء صافية مزرقة كمرآة نقية. وقف هناك شامخاً على القمة، أشعة الشمس خلفه ترسل بريقاً ساطعاً من على كتفيه المرصعة بالذهب، بينما يرفرف وشاحه الأرجواني بعنف كأنه يصارع البقاء. بالكاد استطاعت النظر نحوه مع تلك الرياح، لكنه أيضاً لم يلتفت نحوها، بقيا لوهلة صامتين ثم خف هبوب الرياح قليلاً كأن الوقت تباطئ قليلاً ليمنحهم الفرصة. صرخ:
- يجب أن تعودي إلى القصر!
لم يكن ينتظر إجابة لكنه يدرك وجهها الذي مط بعلامات الدهشة.
- لا أدري لم أنا تائه بدونك.
ثم التفت نحوها، كانت مشغولة بازاحة خصلات شعرها المتنمرة على وجهها، وثوبها الذي يتمرد عن جسدها بشراسة، لكنها رفعت وجهها نحوه بكل ثقة عيناها وحدها تشعان بكلمات لا يمكن إلا قراءتها:
"لا أستطيع"
- إن كان ذلك من أجل الحاكم، فسأتدبر أمره
أشعت عيناها ببريق الاصرار:
"لا تفعل"
قبض على يديه بقوة، يعلم تمامًا أنه طلب أناني، لكنه يريد رؤيتها، وحدها من يجعله يشعر بالراحة بين هذا العالم الوحشي حوله، خداع نفاق وألعاب خسيسة لكنها ببراءة عينيها تجعله يشعر بالصفاء، لا يزال هناك أمل لا يزال هناك نقاء.
- إذاً
تردد:
- هل يمكنني على الأقل أن ألقاكي هنا كل أسبوع؟
لم تستطع أن تسيطر على شبح الابتسامة الودودة التي ارتسمت على وجهها، وجهها النض ووجنتاها الورديتين، هزت رأسها بالايجاب لتشرق عينيه ببريق السعادة.
- أعدك أنني سأبذل جهدي!
اقترب، خطواته ثقيلة مع اندفاع الرياح، رؤيته يتقدم نحوها بذلك الشكل لم يسعها سوى أن تتلألأ عيناها بالدموع، أو ربما الرياح من نكزت غددها الدمعية، إلا أنها متأكدة كل التأكيد أن بكل خطوة يخطو بها نحوها تجعل قلبها يريد الخروج، طنين هائج يخرق أذنيها، اقترب منها، لامست أنامله بطراوة وجنتها الناعمة، شعرت بجسدها متصلباً، تسمرت مكانها وتجمدت ملامحها، عيناها تتلألأن بدموع عالقة تنظر نحو عينيه اللتين تنطران نحوها بوداعة يتشوش وجهه لبرهة في ناظريها ثم يستقر، خرج صوته العذب برقة:
- أتسمحين لي؟
لتجد رأسها يؤمئ بتلقائية، فتجد رأسها يتجه نحو كتفه بانسيابية، ثم اقتحمت رائحة عطره أنفها وامتلأت رئتيها لتشعر بعضلاتها المتشنجة وهي تسترخي، ثم تجد ذراعيها تحوط صدره فيسري في جسدها دفئ لطيف، تشعر وكأنك تسترخي بين الغيوم.
جلسا أسفل شجرة دراق، على جانب من جوانب التلة، يستقر كوخ مهترئ يحيطه أشجار كثيفة تتلألأ قطرات الندى على وريقاتها الرطبة، تسيل تلك القطرة بحركة مرنة كدودة قز كسولة ثم تلمع كبلورة كريستالية على ضوء أشعة الشمس ثم تسقط مع نغمة موسيقية منعشة، تتراكم تلك النغمات مع كل قطرة تشكل سيمفونية عذبة، بينما تترصع تلك الأشجار بجواهر مشعة من الدراق، يلمع لونه الأحمر القاني كزمردة تتوهج بكل ثقة على تلك الأشجار النضرة.
تتكئ برأسها على كتفه، ويتكئ برأسه على رأسها الغض، يشعر بعظام رأسها الناعمة، تجعله يغمض عينيه وكأنها ينام على وسادة من الريش. حتماً قربها نحوه يمده القوة، يشعر الآن وكأن لكل شيء نهاية، تتراقص الأفكار في مخيلته واحدة تلو الأخرى، وكأنه ينظر بعينٍ مغايرة. رفع رأسه ونظر نحوها، فأزاحت رأسها ونظرت نحوه، عيناها البريئتين البلهاوتين متوهجتين متورمتين، وظلال مشاكسة تبيت أسفل عينيها، أخرج منديلاً من جيبه وأخذ يمسح وجنتيها، ثم همس بلطف:
- تعبتِ، أليس كذلك؟
أخفضت رأسها في محاولة لإخفاء بؤسها، فاستطرد:
- أنا آسف، كان ذلك بسببي.
استيقظت عيناها لتفتحهما على مصرعيهما، حين أردف:
- أردت أن أخبرك بذلك.
شدت على قبضتها التي بدورها تمسك ثوبها، تعض لسانها العاجز عن التعبير، رؤيتها بهذا الشكل جعله متردداً حائراً، هل يتقدم بخطوته التالية أم يتراجع، لكنها سرعان ما توقفت عن عض لسانها، وارتخت ذراعيها، ليخرج صوته الهادئ يشوبه مسحة من التوتر:
- أردت أن أعرف ....
ثم أشاح ببصره بقلق:
- ... أردت أن أزيح عنكِ هذا الحمل ... لكنني انتهيت بقلب الأمور.
طأطأت برأسها بأسف، وأخذت تصرخ في رأسها:
"أنا أعرف، أعرف ذلك! لكن لم يكن باليد حيلة سوى الشعور بالغضب!!"
- هل يمكنكِ أن تكوني إلى جانبي؟
نظر نحوها ومد يده، بينما ومضت عدة ومضات تستوعب ما الذي يجري، عيناها تشوبها الحيرة والخوف، نظرتها نحو يده بتلك الطريقة جعله يستشعر ترددها، لابد أنها في موقف صعب، يبدو أنه يثقل عليها أكثر! فسحب يده، ابتسم ابتسامة فاترة وقال:
- لا بأس، ليس عليكِ أن تجيبنني الآن.
تلون على وجهها الشعور بتأنيب الضمير، عيناها ذبلتا بعيداً، وزمت شفتيها بألم، الأمر ليس وكأنها لا تريد، ولكنها لا تستطيع! فهي لم تعد نورساً بأجنحة بعد الآن.
...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق