الفضول قاتل، حتى لو لم يكن جيدًا في بعض الأحيان، إلا أنه قاتل.
هذا ما اشعر به حاليًا، تنتابني آلاف التساؤلات والتساؤلات، وكل سؤال يفتح معه آلاف التفرعات، حتمًا رأسي يؤلمني!
لكن ذلك لم يكن ليطفأ نار الفضول!
"وأنا التي اعتقدت ذلك!"
إلا أنه بدخولي غرفة الانتظار، حتى قلت في نفسي:
" ما الذي أتى بك هنا؟!"
تسللت بحذر، كان يجلس في منطقة المائدة الدائرية قبالة النافذة، ظهره يواجهني، لذا احتمال ملاحظتي تقل نسبيًا.
تسللت على أطراف أناملي بحذر، كالقط المتسلل، حين صادف رؤيتي لجثة ضخمة تسد الطريق، وقفت، ورفعت رأسي عاليًا، لأجد المدير ينظر إلي تلك النظرة الخبيثة، التي دائمًا أعرف أن خلفها مهام مزعجة.
"يا للإزعاج!"
علقت في نفسي، حين أمال رأسه بشيء من اللطف العجيب، وتساءل:
- هل أنتِ متفرغة الآن؟
- أوه، الآن، أجل ... أعني، لا، آه، أجل ... تذكرت، علي الذهاب و...
- مجدوليـــــــــــن!
علق بشيء من الاستنكار، حين نظرت نحوه ببراءة، فتنهد، وعاد يجلس على إحدى الأرائك قبالة مكتبه، وضع ساقه على الأخرى، عقد أنامله واتكأ بها على ركبته، ثم قال بهدوء:
- كما ترين، هيثم لا يبدو بخير هذا اليوم، لا أعرف ما الذي حصل، ولا هو يساعدنا في فهم مشكلته، ونظرًا لأهمية الحفاظ على صحة الفرق النفسية والذهنية ...
قاطعته بانزعاج:
- هلًا توقفت عن هذه المقدمة المزعجة.
فنظر إلي بدهشة، فأردفت لأبعد عني الشك:
- أعني، أنك تريد مني معرفة سبب استياءه صحيح؟ ... ألا يمكن لحضرتك أن تقولها بسرعة، أليس الوقت مهم هذه الأيام؟
ابتسم بلطف خارج عن العادة، لكنه لم يكن يخفي نوايا سخيفة، لذا تنهدت بارتياح، حينها نهض، وأنهى حواره:
- اذًا، أعتمد عليكِ.
ثم رحل، وتركني أنظر إلى ظهر هيثم الذي بدا منحنيًا بعض الشيء، أفكر في إن كنت فعلت الصواب في نفسي أم لا.
اقتربت منه ببطء، لم أكن مستعدة بعد لمواجهته، إلا أنني وللحظة ترددت، هل يعقل أن يكون ما حصل خلال المدرسة؟
أخذت أتذكر وجهه حين جلسنا قبالة بعضنا في غرفة الممرضة، بدا مصفرًا مذعورًا، وكأنه سيفقد السيطرة على نفسه وبتقيأ.
هل الأمر حقًا بتلك الخطورة؟
تساءلت في نفسي، بينما يتملكني الفضول لمعرفة ما حصل فعليًا.
التفت إلي، فتجمدت مكاني إثر المفاجأة، ثم استيقظت سريعًا، وابتسمت بلطف، ألوح له ببلاهة.
"يا للغباء!"
علقت في نفسي.
كم من الصعب أن تؤدي دورين أمام الأشخاص ذاتهم، خاصة حين تكونين متناقضتين، تشعر بالبلاهة، والغباء.
دنوت منه، وجلست على الكرسي الذي بجانبه من الجانب الآخر من الطاولة، وأنا أبتسم بوجهه، وأقول بمرح:
- اذًا هل أستطيع معرفة ماذا يحصل هنا؟
تبًا، ثم تبًا، ثم تبًا ... آه، أريد أن تبتلعنِ الأرض، وتحبسني داخلها.
لكنه نظر إلي بدهشة، ثم أشاح وجهه بحياء، فزاد ذلك من حيرتي، وفضولي لمعرفة ما يخفيه، حينها تحولت نبرتي بتلقائية إلى جدية متسائلة:
- هل حصل شيءٌ سيء لك خلال المدرسة؟
ارتعش جسده، واهتزت ملامحه، من لن يلاحظ أن كلمة "مدرسة" هي السبب؛ بعد رؤيته بذلك الشكل المثير للشفقة.
- لم يحصل ... شيء!
أجاب بكبرياء، رغم ملاحظتي لارتجاف وتيرة صوته، فأدركت أنني سأواجه عناده المنهك.
- حسنًا اذًا، ما دام لم يحصل شيء، لمَ أنتَ منعزل عن الآخرين، ألا يجب أن تذهب إلى التمرين.
- لا أريد!
حقًا؟! هل أنتَ طفلً ما؟! لكنني لا أملك صلاحية الغضب عليه في الوقت الحالي، لذا أمسكت قبضتي حتى لا تلكمه بكل قوتي.
- أنتَ لا تحاول أن تجعل الجميع يتوسل إليكَ لتقول ما بك، أليس كذلك؟
لم أنتبه إلى نبرتي المحملة بشحنات الغضب، والاحتقار، إلا حين نظر إلي بدهشة مفزعة، وكأن ما خرج مني لم يكن معهودًا مسبقًا.
إلا أنه أشاح وجهه بشيءٍ من الندم، يفرك أنامله في بعضها بتوتر وقلق، حين خرج صوته مثقلًا بالحياء:
- إنه ليس وكأنني أريد ذلك، لكنه ليس أمرًا من السهل الحديث عنه.
- اذًا يمكنك أن تخبرني، وأعدك أن نحل الأمر بطريقة سرية.
فنظر إلي متأملًا، ثم تساءل بشيء من الشك:
- هل حقًا ستفعلين؟
فابتسمت مطمئنة، وأومأت بالإيجاب، ليخرج دفترًا صغيرًا من جيبه على عجل، كتب عليه بيدين مرتجفتين، ثم وجهه نحوي، لأحدق فيما كتبه بصدمة شديدة.
شعرت بشفتي ترتجفان، أطرافي تيبست، هذه حتمًا ليست ردة فعل فتاةٍ بالغة، لكنني حتمًا لم أتمالك نفسي، كيف تحصل مثل هذه الأمور في مدرستي، ألهذا لم يرد مني أن أنظر؟
أهـــــذا .. ما لم يتوجب علي رؤيته؟
- مجدولين!
بدا أنه يحدق بي بدهشة يشوبها الاستغراب، لا ألومه، فبالحديث عن سني المزيف في هذه الشركة، لابد أن أدعمه.
تمالكت نفسي، عدلت جلستي، ثم نظرت إليه بحزم، وتساءلت بشيء من الجدية:
- إذًا ... ماذا ستفعل؟
تردد، شعرت بذلك، عقد أنامله على الطاولة، وأخذ يحدق فيها، حين تلعثم بقلق واضح:
- لا ... أعرف حقًا ...
ثم نظر إلي برجاء، وهمس:
- ليس من الجيد إخبار المدير، أليس كذلك؟
شردت في عينيه لوهلة، وميضها البريء يحيرني، هل حقًا يضعف المرء حين يصاب بالاضطراب، ويتغير مئة وثمانين درجة؟!
أردف:
- ثم ...
وأخذ يحدق في أنامله باستحياء:
- كانت هناك فتاةً متواجدةً في المكان ...
فاستيقظت كل حواسي، حين استكمل موضحًا:
- أعني ... أنها لن تترك الأمر وشأنه، أليس كذلك؟
آه، لابد أن أمثل دور المند ... لا، حتى دور المصعوقة ... لابد من ذلك، وإلا أثرت حولي الشكوك، لذا جمعت كل قوتي، وضرب الطاولة بقبضتي، وانفعلت _طبعًا كل ذلك مجرد تمثيلًا، لذا لا تصدقوا_
- هل رأت ذلك؟
- بالطبع لا!
صرخ بعصبية، ثم عاد إلى أنامله، وتلعثم:
- أعني ... أنني ... لم ... أسمح بها بذلك!
تبًا! أريد أن أنفجر ضحكًا الآن، لكنني لا أستطيع في هذه اللحظة!
وضعت أناملي على شفتي؛ لأتجنب ذلك، إلا أن ملامحي لم تستطع الكذب، ليباغتني السؤال الصاعق:
- لمَ تبدين سعيدة؟!
فأخفيت وجهي خلف الطاولة، أخذت أقهقه بخفوت، ثم انفجرت بما أكبته، حتى خرجت من عيني الدموع.
أعرف الآن أنني أبدو غريبة أطوارٍ أمامه، لكنني أخذت أمسح فقاعات الماء على أطراف عيني، وأنا أهمس إثر الضحك:
- أنا آسفة ... آسفة حقًا!
لكن ما إن عدت لهدوءي، حتى وجدته يضحك بدوره، فابتسمت لهذا الانجاز.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق