الجمعة، 6 يناير 2023

الفصل الثامن والأربعون

 القاعة الدراسية معتمة، عدا ضوء خافت يخرج من الفانوس الصغير، إضاءة ناصعة البياض تطل بخجل من النافذة تعكس ضوء القمر، بينما تجلس نورس على مكتبها، تقوم بدراستها المعتادة، حين فتح باب القاعة ليقتحم الهدوء النائم ضوء ساطع من الممر، جعل ذلك الهجوم المفاجئ نورس منزعجة، فغطت وجهها بذراعها.

- أستبقين هنا الليلة أيضاً.

تحرك ظلها العملاق على طول الإنارة، فهمت من خلاله أنها تهز رأسها، فقالت:

- حسناً، سأترك لك باب الغرفة مفتوحاً.

هزت رأسها على عجل، الألم الذي يجتاح جبهتها لم يعد يطاق، تستعجلها لتتركها في هدوء العتمة، حتى قررت أخيراً أن تغلق الباب خلفها، تنهدت وأزاحت ذراعها عن وجهها، يا له من وقت عصيب، لكن الهدوء الذي تمنته لم يستمر إلا لبضع لحظات حين شعرت بالهواء البارد خلفها يلسع ظهرها، يتسلل من خلال ملابسها ويضرب جلدها حتى يتخلل عظامها، شهقت وتجمدت مكانها، ثم هزت رأسها قليلاً لترى ظلاً متوحشاً يقتحم النافذة. لم تستطع تميزه تماماً فضوء القمر الخافت أخفى ملامحه كلياً. التفتت نحوه والتصقت بمكتبها، أخذت تحاول البحث عن أداة لتحمي نفسها، لكنه استمر يسير نحوها بخطوات ثابتة وكأن ما تفعله لا شيء مقارنة بقوته، ذلك لم يكن خطأً، فحتى المسحوق الأرجواني التي رشته عليه لم يجعله يطرف للحظة، همت تحتمي خلف مكتبها، أمسكت المشرط ووجته نحوه، لمعت أسنانه خلال ظله كياقوت ساطع، وقبل أن تطرف عينها وجده يقف خلفها يقيدها ويغطي ثغرها بقماشة تعرف الهدف منها تماماً، أخرجت أنيناً في محاولة للمقاومة لكنها سرعان ما فقدت الوعي وقفز بلمح البصر تاركاً الستائر تتراقص مع نسيم الهواء الليلي البارد الذي يخرج من النافذة المفتوحة، فيجد النور منفذاً ليزيد بسطوعه على مكتبها التي تناثرت الأدوات عليه بشكل فوضوي.

...

- سيدي، لقد أحضرتها.

وقف الرجل الضخم ذو الرداء الجبلي وسط القاعة المذهبة، بينما تجلس نورس على ركبتيها مكبلة اليدين للخلف، يغطي ثغرها قطة قماش معقودة باحكام، بينما يجلس الحاكم الشاب على عرشه، يحدق بأنامله المزينة بخواتم ثمينة يقلبها يمنة ويسرى، ثم قال بسخرية:

- لا داعي لتكمم ثغرها، فهي بكماء.

نظر الحشد نحوها بذهول، ثم فك الرجل الجبلي الخشن العقدة التي تربط القماش في ثغرها بسرعة البرق وكأنها قطعة هشة من اللبان الناضج، ما إن أفلت عن ثغرها حتى أخذت بالسعال، خرج منها صوت هش، ما جعل الحاكم الشاب ينظر نحوها بعينيه الحادتين، يبدو بنظراته هذه وكأنه سيلتهمها:

- أنت!

نظرات نورس الغاضبة نحوه لم تجعلها إلا ككلب وديع يحاول أن يبدو ناضجاً، ظهر شبح ابتسامة من طرف ثغره، بدا وكأنه تشنج للحظة، ثم عدل جلسته ليواجهها، وقال مستطرداً بلهجته الساخرة ذاتها:

- لا عجب من سليلة عائلة لافرتين، يختارون نساءهم بشكل جيد.

عقدت حاجبيها، إلا أنه لا يهم كم تبذل جهدها لتبدو غاضبة ملامحها لا تساعدها. نهض، سار بخطوات واثقة نحو الأمام، ثم اتجه نحوها، جثى على قدميه ليصل إليها ثم رفع يده نحو وجهها، فتلقى عضة على أنامله، تراجع قليلاً، ثم أخذت تسعل باختناق، فضحك ضحكة هستيرية عالية، ثم عاد نحوها وأمسك شعرها من خلف عنقها، وشد وجهها نحوه ثم قال بتحدٍ:

- هل تريدين أن تجربي العبث مع هذا الرجل؟

نظراتها نحوه لم تتغير، ثم بصقت في وجهه، فأفلتها وأشاح وجهه مشمئزاً، فهم رعاياه نحوه يساعدونه بالمناديل الحريرية المزخرفة بأشرطة من الذهب، عندما التقط أحدهم ومسح وجهه باشمئزاز، لتكشف عن ابتسامة مريبة.

- سموك

قال جاك الرجل الجبلي الخشن الواقف خلفها، بالكاد يستطيع النظر نحو هذا المشهد دون أن يفعل شيئاً لكن أوامر سيده صارمة جداً. أردف بغضب:

- دعها لي سموك، سوف أأدبها.

رفع يده إشارة منه أن يتوقف، ثم نهض، ونظر نحوها من الأعلى، ثم قال:

- لا بأس، فأنا أشعر بالملل.

شرارة كهربائية قوية هبت بينهما، ثم عاد يجثي لكن على ركبتيه هذه المرة، ثم قال بهدوء ساخر:

- كان ليكون الأمر أسهل لو أن والدك قبل بشروطي.

ابتسامته عادية لكنها مستفزة جداً بالنسبة لها، اقترب بأنامله نحو عنقها، ورفع رأسها ليضغط مكان أحبالها الصوتية، فتغمض عينيها بألم، ثم اقترب منها وهمس في أذنها:

- كنتي لتغني لي كل يوم!

بضع ثوان من النقر على ذلك المكان، ثم ابتعد والتفت بعيداً، لكنها كانت لها كساعات طويلة من العذاب، ما إن حررها حتى أخذت تلهث بفزع.

- شرطي هذه المرة بسيط جداً.

قال دون أن يلتفت:

- فلتعيدي الدوقة موري إلى رشدها.

ثم نظر نحوها نظرة تعالي ساخرة، وهتف:

- لا يمكنكِ الرفض، فلم يعد لديك صوت، أليس كذلك؟

كشرت نورس عن أسنانها بحنق، لكنه سرعان ما أشاح وجهه عنها وأشار لجاك أن يسحبها بعيداً.

...

دخلت غرفة مغطاة بالذهب، الأعمدة تلمع بسطوع مؤلم للعين، تلتف فيما حولها لتشكل دائرة في المنتصف، حيث ترتفع فوقها قبة مزججة بفيفساء بهية، تعكس ألوانها على السيدة الحسناء النائمة على قاعدة بحجمها، شعرها الأسود المتدلي على طول القاعدة، ينسدل حتى آخرها، ووجها الشاحب الذي لون بلون من الأضواء فوقها، يظهر أسفل عينيها التعب بشكل بارز، بينما شفتيها جافتين بهت لونها، ترتدي ثوباً أبيضاً مزخرف بزخارف جميلة من خيوط الذهب، تبدو به كملاك من ملائكة السماء. أفلت جاك نورس بعنف وقال بصرامة -هو لم يسامحها بعد عما فعلته بسيده-

- لن تخرجي من هنا، حتى تستيقظ السيدة، هذه أوامر مولاي.

ثم خرج وأغلق الباب، ثم سمعت طرقه بإحكام، لتجد نفسها محبوسة في قبة مذهبة بشكل مجنون مع سيدة مرعبة. أخذت تنظر حولها، القبة كبيرة وواسعة، الجدران والأرضية مغطاة بالذهب، هي تعلم سبب ذلك تماماً، فالذهب من يتحكم بقوة الآموري، ولكونه بحاجة للذهب كي يبني هذا الصرح الضخم فلا بد أن يستولي عليه الطمع. أمير مملكة رامون، الأمير الأول جوهان رامون، عدو شقيقها اللدود، كان متلهفاً أشد اللهفة لمواجهته، إلا أن شروط والده غير المنطقية حالت على أن يلتقيان، هل حقاً سيظن أن والدها سيتركها رهينة عنده حتى يحرر البلاد؟ هي متأكدة بشكل قاطع أنه يسعى نحو الإكسير، ربما لا يعرفه لكنه حصل على آموري، نتاج تلك التجارب البشعة التي قامت بها جدتها، هي لا تنكر أن ما قامت به جدتها لا يغتفر، لكنها بخوضها نفس المصير تجلس معها على نفس القارب، لذا عليها تحمل نتائج فعلتها وإنقاذ ما تبقى من البشر. لكن ... هل يمكنها أن تخاطر بحياة السيدة موري لتجربة مسحوقها الجديد؟ وأين؟ هنا؟ في أرض رامون؟ هو حتى لا يريدها أن تعود بشرية، ولكنه يريد إيقاظها لتعيش بشكل أطول في عذابها، كيف تعرف؟ بالتأكيد تعرف ما نوع العذاب الذي يحطم خلايا جسده تلك السيدة، فهي من تعلم على يد الجدة التي فعلت بهم ذلك. لكن هل يعرف هؤلاء الأشخاص ما مقدار الوحشية التي يقومون بها، أن توقظها من أجل القوة كأداة للحرب دون أدنى معرفة بما يجري حقاً، فقط من أجل القوة، هي ذاقت ذرعاً من ذلك، ذاقت ذرعاً من هؤلاء الذين يسعون وراء القوة دون أي إدراك لنتائج فعلتهم السيئة، لكن جدتها أخبرتها، أن ذلك ما علينا أن نفعله كي يعلموا نتائج أفعالهم، هي أخبرتها أن الرجال من أصعب الكائنات البشرية، من الصعب قول لا في وجه رجل، عليك أن تتركه يعيث في الأرض فساداً حتى يأتي رجل آخر ويقطع رأسه. ليس باليد حيلة!

استمرت بالنظر حولها حتى أشعت بعض العمدان ووجهت نورها نحوها، كان الضوء ساطعاً جداً، لم تستطع نورس تحمله فحاولت حماية وجهها بذراعيها، ثم حاولت السير بشكل يجعلها تتجنب ذلك السطوع ليتلاشى شيئاً فشيئاً وتظهر أمامها منضدة من الذهب، عليها الكثير من الأدوات الطبية. نظرت نحوها، تحسستها بحذر، يبدو أن أحداً هنا كان قبلها واستخدمها، ثم نظرت نحو مكان السيدة النائمة.

حقيقة وجودها هنا رغم كونها في الأكاديمية تفزعها، تذكرت أن عليها أن تحذر أنيس حول هذا الأمر، ولكن كيف؟ أخذت تمسح المكان بنظرها، المسير طويل، المكان واسع وكله يدور حول نفسه، تشعر أنها تسير في مكان لا نهاية له، والأهم لا يوجد أي قطعة قماش، أو أي شيء يمكن استخدامه للكتابة، الذهب ينهش المكان بنهم. نظرت حولها ثم توقفت عند السيدة النائمة، فكرت قليلاً ثم نظرت نحو ثوبها، ثم نظرت نحو ثوب السيدة، إنها تعرف الأمير جيداً، لو مزقت من ثوبها سيشك بالتأكيد، لكنها لا تتجرأ على فعل ذلك لسيدة نائمة، شعرت لوهلة أنها محاصرة، ثم اقتربت من السيدة شيئاً فشيئاً، أنفاسها التي تصبح أقرب إليها تجعلها متأهبة لما هو آت، وضعها مع امرأة كهذه السيدة في غرفة مذهبة محكمة الاغلاق، إنها لمخاطرة كبيرة، أن تستيقظ! هل فقد عقله؟ لكن من فقد عقله الآن هي، فها هي تحاول أن تقترب من بطانة ثوبها بحذر، ما إن اقتربت منها حتى تحركت، فاندفعت بعيداً. هل فقدت عقلها؟ بالتأكيد هذه مخاطرة!

استوقفت نفسها للحظة، ثم نظرت نحو القبة المزججة، أليست هي الشيء الوحيد المكشوف في هذه الغرفة! آه يا للغباء، حتى لو نجحت - إن نجحت- في أخذ قطعة من قماش ثوب السيدة النائمة، فهل هو بهذا الغباء كي يدعها بمفردها دون مراقبة؟ أليس هذا السبب الوحيد لوجود هذه القبة الزجاجية؟

"آه"

فكرت: "الأمر أصعب مما تخيلت"

لكنها يجب أن تخبر بأمرها لأخيها، حتى لو كانوا سيفقدونها حالاً، إلا أن أحداً سيعلم بكون المكان مكشوف بالنسبة للعدو، من يعلم لأي مدى استطلع العدو المملكة، أن تكون هنا في هذا المكان وحدها مصيبة!

- آه!

خرج صوت ضعيف من السيدة النائمة:

- آه!

تأوهت بألم، وتحرك وجهها ببطئ وكأن ملامحها ألصقت في مكانها، فزعت نورس وخطت خطوات نحو الخلف، ما الذي كانت تفكر فيه في تلك اللحظة! ثم خرج صوت ضعيف بالكاد كان مسموعاً.

- ولدي!

ثم قبضت يدها بشدة، وانتفض جسدها، شعرت نورس بأن الأدرينالين ارتفع في كل أنحاء جسدها، تجمدت مكانها ولم تستطع الحراك، ثم عادت السيدة إلى حالتها الميتة. ضغطت نورس على صدرها، هناك حيث قلبها يحبس في حسدها، شعرت به يهتز من الألم، كقارورة مسدودة، لوهلة تحولت إلى شخص عديم الرحمة معتقدةً بأنها كائن غريب، تناست تماماً أنها كانت بشرية بجسدها وقلبها. وفوق ذلك هي أمام والدة الشخص الذي تحب.

تجمدت مكانها لوهلة، تعرف أن ما تفعله لا يغتفر، لكنها يجب أن تعود لتكمل ما عزمت إليه، عادت للمنتضدة التي عليها المعدات ترددت قبل أن تمسك بعضها، همست في نفسها:

"أنا آسفة، لكن عليكِ أن تصمدي قليلاً"

...