الاثنين، 10 أغسطس 2020

الحلقة السادسة

 - لقد تأخرت!

العبارة الوحيدة التي استطعت نطقها هذا الصباح، حين قفزت عن السلالم بعجل، لم أكن في المزاج الذي يسمح لي بالاستماع إلى تحذيرات والدتي عن حركاتي المتهورة، لكنني أعلم أنها ستفعل، ما إن تراني أرتدي حذائي دون أن أجلس، وأحمل حقيبتي، أوقع الكتب؛ لأنني نسيت اغلاقها، ثم أعود أرتبها على عجل _ حسنًا لا يمكن أن يسمى ذلك ترتيبًا، ربما دسستها داخل الحقيبة أكثر ملائمة للموقف_ ثم أسير بعرج، لأنني أرتدي حذائي بنصف قوامه، لأدخل المتبقي من قدمي داخله وأنا أقفز نحو بوابة الحديقة الصغيرة، أحمل بيدي الأخرى حقيبتي التي تكاد تسقط مجددًا، واضعةً في فمي الخبز المحمص الذي لم أستطع تركه على الطاولة.

ركضت في الممر، رغمًا عني _فلست من النوع الذي يحب مخالفةً القواعد_ إلا أنني أخذت أدعو في نفسي ألا يشاهدني المدير، في اللحظة التي أرجو فيها أن لا أوبخ من المعلم على تأخري.

اليوم فقط، أدركت لمَ يمنعون الجري في الممر، لم أكن لأنكر بعد ذلك أهمية تلك القاعدة، حتى دهشت بنفسي أتزلج بسرعة البرق في الأنحاء.

"الفرامل!"

همست في نفسي، حين أخذت أتساءل إن كنت حقًا حمقاء لقولي مثل تلك الكلمة! لكنني حتمًا لم أستطع إيقاف نفسي، حتى ساعدني اصطدام راسي بالحائط على ذلك.

لم أكن لأعي ما حصل، فقط ظلام مشوش، ومكان ما من الأعلى مؤلم، حتى شعرت ببرودة الأرض تلسع مؤخرتي، لأدرك أنني سقطت على الأرض.

صراخ الفتيات أيقظ كل حواسي، حتمًا كم هن مزعجات، ألا يستطيع المرء أن يتألم بسلام!

وضعت يدي على رأسي، وأخذت أهزه؛ عله يصحح الرؤية، حين شعرت بيد المعلم تربت على كتفي، ودخل صوته في رأسي:

- آية! هل أنتِ بخير؟ هل أطلب من أحدٍ إيصالكِ للعيادة؟

"تطلب من أحدهم؟!"

رنت كلماته في أذني كالرصاص، فأخذت أكابر وأتحامل على نفسي، فأنهض بصعوبة، وهززت رأسي بالنفي، ثم همست بضيق:

- لا بأس، أنا بخير!

حقيقةً، شعرت بأسناني تخرج من أماكنها فور تحدثي، وكأنها انتظرت اللحظة المناسبة لفعل ذلك، فأطبقت عليها باحكام.

آه! أخيــــــــرًا، المقعد!

وضعت رأسي على طاولة المقعد مباشرة، فور وصولي إليه، وكأنه المكان الملائم لإسناد رأسي المتكسر، وأخذ بعض الراحة، حتى شعرت بهالته الباردة تقترب مني.

- هل أنتِ بخير؟

هل أنتَ جاد؟ بالتأكيد أنا بخير، فأنا لم أصدم رأسي بالحائط قبل قليل! بالتأكيد سأكون على أتم ما يرام!

لكن صوتي خانني، فهمست بالصعوبة ذاتها:

- أجل!

- هل تريدين أن أوصلكِ إلى الممرضة؟

بحق الله! ما بال البشر؟! بالتأكيد أحتاج الذهاب إلى الممرضة، لكن ليس أنتَ من سيوصلني إلى هناك طبعًا!

وقبل أن أعترض، هتف:

- حضرة المعلم، هل يمكنني إيصال آية إلى العيادة؟ فهي لا تشعر بأنها بخير.

- لست كذلك!

خرجت كلماتي بغضب تلقائي، لم أكن لأتجهز له حتى، ليتقابل وجهانا، فأرى علامات الدهشة المرتسمة على ملامحه، حين ظهر له وجهي المحمر، والندبة التي تغطي جبهتي، وعيوني المنتفخة الدامعة.

إلا أنني اعصمت العناد، ناهضًا على غفلة، وهمست بعصبية:

- سأذهب وحدي.

ثم خرجت، شاعرةً بتلك العيون النهمة تتبعني، كنت أعرف أن تصرفي لم يكن لائقًا، حسنًا ربما للبعض، لكن كونه فنانًا مشهورًا لا يعني أننا يجب أن ننصاع لأوامره.

أخذت أعرج، وأنا أمسك الحائط، حتمًا أكرهك أيتها الحائط، بسببك خسرك الدرس، والأهم من ذلك، رأسي الذي يحتضن المعلومات، ماذا سأفعل إن خسرت جزءً من دماغي جراء صدمتك ... لمَ يجب أن تكون الجدران في الطريق أساسًا؟!!

وصلت العيادة بسلام، تنهدت لهذا الانجاز ... هل رأيتم؟ لستُ بحاجة إلى المساعدة!

لكنني وقفت لبرهة مصدومة، إثر ما رأيته أمامي.

حقًا! ... أنتَ لا تمزح معي صحيح؟! ... الأولى أن أقول:

" من الجيد أنني رفضت مساعدته !"         

لكنني فقدت طاقتي، فسقط أرضًا، حين هم نحوي بسرعة عجيبة، ثم هتف بذعر:

- هل أنتِ بخير؟

ما بال هذا السؤال بحق الإله؟!

- دعيني أرى اصابتك.

نظرت نحوه بدهشة، فأنا حتمًا لا أعرف من اين أتته تلك الشجاعة؛ ليقولها بتلك البساطة.

همست:

- أين. .. الممرضة؟!

- هي ليست هنا.

بدا أنني وضعته في موقف حرج، إلا أنني لن أسمح لأحدِ من أعضاء الفرقة بلمسي، لكن لحظة! هناك أمرٌ أهم علي التذمر بشأنه ... أين الممرضة؟!

بحق الله، كيف تكون عيادةً بلا ممرضة؟ أو بالأحرى، كيف تترك الممرضة العيادة في وقتٍ كهذا؟

لفتت انتباهي الضمادة التي تغطي ساقه، فتساءلت:

- هل أنتَ مصابٌ أيضًا؟

أخذ يقهقه بشيء من الاحراج، ثم أجاب:

- أجل.

ثم هم ناهضًا، متجهًا نحو خزانة الاسعافات، تناول شريطًا من الشاش، وقطعة قطنية، رأيته يبللها بماء بارد، اقترب مني، وقبل أن أدرك، وضع بعضًا من الثلج مكان الرضة، ثم غطاه بالقماش الرطب، ثم لف رأسي كاملًا بالشاش.

- هذا سيخفف الألم ريثما تعود الممرضة.

لا أعرف ما الذي حصل لي حينها، لكنني أخذت أحدق فيه بدهشة تشوبها البلاهة، ربما يمكنني تفسيرها على أنها المفاجأة، لكنها لن تكون كذلك لشخصٍ آخر.

ابتسم ابتسامة لطيفة، تظهر حيزًا ضيقًا من أسنانه، انتابني بعض الشك تجاهها، لكنني أخذت أجاهد؛ لأنهض، حين وجدت يده تمتد نحوي.

- لا تستطيعين النهوض، أليس كذلك؟

نظرت إليه تلك النظرة الحمقاء مجددًا _حقًا بدأت أكره نفسي الآن_ لكنني تراجعت، ثم همست:

- لستً كما تظنني.

ثم أخذت أستعين بالخزائن، حتى جلست أخيرًا على إحدى الكراسي، بينما عيناه تتبعاني بدهشة، واستغراب.

في تلك اللحظة، بدأت أصوات غريبة تصدر من إحدى الزوايا، نظرنا كلانا نحو بعضنا باستفهام، بينما يتأكد كلًا منا أن تلك الاصوات لا تصدر من أحدنا، حينها انتابنا الرعب.

أخذت أطرق السمع، بدت ضحكات وآهات مستفزة، حين استقر الصوت أخيرًا عند إحدى الستائر المغلقة، اتجه نحوها ببطء شديد، وحذر، وكأنه قط متسلل، لأجد نفسي تتبعه بتلقائية.

رأيته يفتح الستائر بحرصٍ شديد، سمعت رمقه القلق، ثم نظر نحوي، وأغلق عيني، ثم سمعته يصدر حفيفًا؛ أعتقد أنه ذاته الذي يطلب منا الهدوء، ثم همس بحذر يشوبه القلق:

- ليس عليكِ أن تنظري.

ثم هم  يدفعني نحو الكرسي، وجلس على الكرسي المقابل، نظرت نحوه بتساؤل، الفضول يقتلني، ما الذي ليس من المفترض أن أراه؟

ثم ما بال هذا الوجه القلق؟ أليس بقاؤه هكذا وحده يجلب آلاف علامات التساؤل.

- آه! ها أنتما!

أتى صوت الممرضة نتالي أخيرًا، حين اقتربت، وهتفت بمرح:

- يبدو أنكما تدبرتما الأمر.

ثم نظرت إلي، وأردفت:

- على أية حال، أخبرني الأستاذ إياد أنكِ صدمت رأسكِ بالحائط.

هنا اتجهت نظراته المزعجة نحوي.

- لذا سأتوجه بكِ إلى المشفى

نظرت نحوها ببراءة، ثم هززت رأسي إشارة الموافقة، لتتغير نظراته فجأة نحونا، وتساءلت بقلق:

- هل من خطبٍ ما؟

- لـ ... لا ... لا، أبدًا!

أجاب بتردد، حينها نظرت الممرضة نحوه وكأنها فهمت تعبيرات وجهه.

مرحبًا! أنا هنا!

أدركت أنه ليس مرحبٌ بي ضمن الدائرة، لذا نهضت، وقلت بلا مبالاة:

- سأسبقك!

- أوه! لا، ليس عليكِ السير وحدك ... سآتي حالًا.

ها هي قادمة، يا للإزعاج!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق