الخميس، 15 أكتوبر 2020

الفصل الخامس والأربعون

 - صاحب الجلالة!

انحنى اللورد جون وهم يقف بجوار اللوردين الآخرين، بينما يجلس الحاكم على عرشه، عيناه فارغتين ووجه شاحب، خبر اختفاء برقية القائد ليون أصابت الجميع بالحزن.

- من يمكن أن يكون الفاعل؟

علق سيمون بانفعال، لكن أحداً لم يجب، قال الجندي الذي يحمل التقرير:

- حسب ما شخصه الطبيب فالجروح ليس من فعل بشري عادي.

حل المكان الصمت، نظرات الحاكم توجهت نحو روهان الواقف بجانب صف القادة، رؤية ذبوله بهذا الشك لم يستطع سوا أن يتنهد، وقال:

- سنعقد مبارزة جديدة.

- سموك!

هتف الجميع بدهشة، بينما استطرد الحاكم:

- لا يمكن أن ندع القسم الأيمن من الجيش يتداعى، ونحن على وشك مواجهة جيش رامون قريباً.

أخفض القادة رؤوسهم، من المؤسف أن يمر موت أحد القادة بذلك الشكل، لكن الحاكم محق، جيش رامون لن يستسلم بسهولة، إلا أن تجاهل الأمر بذلك الشكل! ما خطب الحاكم؟

خرج الجميع من قاعدة الاجتماعات وهم يثرثرون بانزعاج، أليس عليهم أن يقدموا له جنازة لائقة على الاقل! لمَ الحاكم مستفر هذه الأيام!

تقدم القائد دان من روهان وقال:

- ما بالك هادئ جداً مؤخراً، بالكاد سمعنا صوتك!

فعلق القائد سيمون:

- تقصد أننا لم نسمعه على الإطلاق.

ابتسم روهان ابتسامة طفيفة، وقال:

- تشغلني بعض الأمور.

ثم استأذن وهم مغادراً، فنظرا كلا القائدين لبعضهما باستغراب، ثم تساءل دان:

- هل تعتقد أنه قلق بشأن تولي الأمير لوكاس الفرقة اليمنى؟

- همم! ربما، فهو سيزيد صعوبة ترشحه للعرش.

ثم نظرا خلفهم حيث خرج اللوردات وهموا في طريقهم نحو الطرف الآخر.

...

في ساحة التدريب، بعد أن غادر الجميع، اجتمع كلاً من مارون ولان وآندي لجمع السيوف وتخزينها في مخزن الأسلحة، حين علق لان:

- هل سموه بخير؟ إنه اللقاء الرابع على التوالي.

فتساءل آندي:

- منذ الحادث لم يظهر وجهه، ألا تعتقد أن الأمر أصبح جدياً سيد مارون.

- الأمر يعتمد عليه فيما إن أراد النهوض أم التراجع.

نظرا كلاً من آندي ولان بدهشة لبعضهما البعض، ثم نظرا نحو مارون الذي بدا متجهماً، فقال آندي:

- لكنه صديق طفولتك، ألا تظن أنك تقسو عليه قليلاً؟

تنهد مارون وهو يضع السيف بعد تنظيفه، ثم نظر نحوهما، وقال:

- أليس ذلك ما سيعرفه في النهاية؟

- ولكن ...

علق آندي وهو يحك عنقه بتوتر:

- ألا تعتقد أن طريقتك جافة بعض الشيء؟

- ما الذي تعنيه؟

- أن ترمي بين يديه ملفاً خطيراً مثل ذلك وتتركه يطالعه بمفرده، ثم تطلب منه أن يعقد تعاوناً مع ولي العهد.

- أجل، هذا قاسٍ جداً.

علق لان في محاولة لإثارة غضب مارون:

- أتساءل أين كنت عندما وزع الإله الرحمة؟

- لان!

يبدو أن خطته نجحت، فها هو مارون يحدق به بغضب، فقابله بنظرة بلهاء ممزوجة باللامبالاة، حين أوقفهما آندي:

- الأهم من ذلك، أنتما.

فنظرا نحوه بانتباه:

- ما الذي سيحصل للآنسة؟

وكأن ذلك أشعل شرارة في عقل مارون، أنّى له نسيان ذلك!

- قلت سابقاً، أنها عوقبت بالذهاب للأكاديمية الملكية بسبب الإكسير! ألا يعني أنه ربما لها يد في ذلك؟

- هذا معقول!

أطرق لان مفكراً، حين صرخ مارون بفزع:

- ما هو المعقول أيها الغبيان؟ تلك تجارب قديمة قبل توريث الإكسير.

- لكن ألا يبقى كون اسم عائلتها ملوثاً؟ ألا يعني ذلك رفضها من قبل صاحب الجلالة.

- ولكن صاحب الجلالة يستخدمها مع ذلك.

- أليس ذلك خبيثاً!

اشتعلت عينا لان وآندي بنظرات حادة، بينما أخذ يتبادل مارون بنظره بينهما بذعر:

- أنتما حقاً مرعبان.

- لكننا سنكون في صف صاحب السمو!

علق لان بمرح:

- مهما كان قراره، سندعمه.

ابتسم كلاً من آندي ومارون، هتفا:

- أجل!

...

التجربة رقم 5:

تم تجرع المحلول بنجاح، لم تظهر أي ردة فعل غير طبيعية.

التجربة رقم 6:

بعد 3 أيام أظهرت انتفاخ في العضلات وحدة في الاسنان.

التجربة رقم 27:

تمزق في الغدد اللمفاوية وردات فعل أقرب إلى الجنون.

التجربة رقم 119:

تجريد إنساني كامل، التحول بنسبة 90%.

التجربة رقم ***:

ولادة آموري .. مورين كارتل.

.

.

.

تجمد مكانه للحظة، يداه ترتجفان ويرقص الكتاب بينها بعدم استقرار، شعر لوهلة أن الدنيا اسودت في وجهه، وقلبه توقف عن النبض، قشعريرة كهربائية تتولد في جسده، عندما تابع القراءة بأعين مفزوعة:

_____

الحالة النفسية: غير مستقرة، محاولة انتحار إزدواجية.

*يبدو أن التجربة فقدت السيطرة وهربت من المختبر.

_____

أطبق الكتاب بكفه، وانهار على الأرض، عيناه فارغتين انطفئ داخلها النور، فقد شعوره بحواسه لوهلة، وكأنه لم يعد يدرك محيطه، ثم عاد بنفسه طفلاً وهو على أريكة فارهة في غرفة زجاجية تحوطها النباتات والأزهار كغابة مصغرة، بينما ملابسه المتسخة  ووجهه ممتلئ بالدموع يظهر أنه أصيب ركبته بسبب اللعب، اقتربت منه مورين، سيدة جميلة ذو وجه لطيف وهالة محبة، حين ابتسمت أشرقت هالتها بنور ذهبي ساحر، تحمل معها قطعة قماش بيضاء ومطهر، جثت بجانب الطفل الصغير وأخذت تمسح مكان الجرح وتغني له بصوتها العذب.

مع دمعات ذلك الطفل التي جفت، خرجت دمعات من عيني روهان المنطفئتين، وبدأ يشتم رائحة الدم التي تفجر في صدره، شعر بألم حاد، لكنه لا يضاهي الألم الذي شعرت به والدته.

...


الثلاثاء، 11 أغسطس 2020

الفصل الرابع والأربعون

 في الدهليز المتوج بأقواس من الرخام، حيث تسمح بدخول أشعة الشمس الهائجة، يسير مارون داخل الظلال، وجهه شاحب وملامحه متيبسة، بالكاد يشعر بلسعة أشعة الشمس على وجهه، حين صادفه أحدهم على آخر الدهليز، حيث العتمة الحاكلة التهمت المكان، بالكاد استطاع مارون تمييزه، عدا تلك الأشعة الخافتة المنعكسة لتكشف ملابسه فتبين أنه أحد أتباع روهان.

- سيدي، سمعت أنك عدتَ أخيراً من رحلتك.

- تيم، ما الذي تفعله هنا؟

- سيد مارون، لدي أخبار عاجلة!

- ماذا هناك؟ أين سمو الأمير؟

- قال إنه ذاهب في رحلة.

- مــــــــاذا؟

كشر مارون عن أسنانه بغضب، بينما بقي تيم محافظاً على صمته، حين هدأ مارون أخيراً وقال:

- المهم، هل قمت بالتحقيق في المسألة التي أوكلتك بها؟

- أجل، وهذا ما أنا آتٍ به لأجلك.

- أحسنت.

- سيدي!

بدا تيم قلقاً، يده اللتان تمسكان الملفات تترتجفان، مظهره المتوتر جعل مارون مذعوراً بدوره، ارتجفت يداه وهو يتناول الملفات.

- شكراً لك أيها الملازم تيم.

- سيد مارون، أرجو أن تبقي هذا سراً. إن عرف صاحب الجلالة بذلك ..

- أعلم تماماً، لا تقلق!

ربت على كتفه وتابع خطواته حيث التهمه الظلام بالكامل.

...

يتناثر الجنود أرجاء الغابة، أصوات الأعشاش المتخبطة بأقدامهم تثير ضجة كبيرة، بينما يقف حصان بني أمام مدخل الغابة يمطتيه القائد ليون ويظهر على وجهه الغضب ونفاذ الصبر، يقف خلفه حصان إيميلي والتي كانت تترقب سيدها بين الفينة والأخرى، في محاولة لكسر حاجز الصمت الذي يزداد توتراً.

- ألم يجدوه بعد؟ أي نوع من الجنود هذه التي في حوزتي.

زمت شفتيها تدعو في سرها أن ينتهي الأمر سريعاً، حين أتى من أمامهم ظل لحصان قادم، فتنهدت بارتياح.

- سيدي!

علق إدوارد بعد اقترابه وسحب لجام حصانه:

- وجدنا جثتين لجنود سيراف.

- و ...

صمت إدوارد لوهلة، نظر نحو إيميلي بدهشة، لكن حركة وجهها أشارت بأن يبعدها عن الموضوع، فعلم أن القائد في حالة هيستيرية، ليأخذ بعض الوقت قبل أن يتكلم بحذر:

- يبدو أن الجراح التي أصيب بها الجنود لم تكن من فعل أحدٍ من أتباع سمو الأمير.

شده بصدمة:

- مـــاذا؟

- سيدي القائد، تلك الجروح ...

ولكن قبل أن يكمل كلماته قاطعه صوت خطوات لأقدام أحصنة، حين نظروا نحوهم ليتجمدوا كالتماثيل.

- ماذا! لقد أخذ منك وقتاً طويلاً لتدرك وجودي.

علت وجهه ابتسامة صفراء جانبية، تبين أن تلك الابتسامة نحجت في إستفزاز القائد ليون الذي بدوره كشر عن أسنانه دون أي محاولة لضبط أعصابه.

- هل تظن أنني سأتغاضى عن فعلتك بإيذاء شقيقتي؟

- الأمير أنيس، لديك الجرأة لتخرج من جحرك ... هل تدرك نتائج مخاطرتك هذه؟

عاد أنيس يبتسم ابتسامة ساخرة، ما جعل ليون يستل سيفه، وصرخ:

- أيها القذر!

إلا أن اتنين من أتباع أنيس تقدموا وأستلا سيفهما، ليتوقف حصان ليون ويقف على قدميه بذعر، فيسقط ليون على ظهره، حينها هم كلاً من إدوارد وإيميلي نحو سيدهما إلا أن إدوارد هم بمداهمة الجنديين، وعلق في مبارزة من طرف واحد.

- أين هو؟

صرخ ليون، فسأل أنيس ساخراً:

- هل هو مهمٌ بالنسبة لك؟

- أيها ..

أجبر نفسه على النهوض وهم نحوه إلا أن جنوده الأربعة المتبقيين باغتوه وأحاطوه أنيس.

- أيها الجبان! حتى أنك لا تجرؤ على مواجهتي.

- عليك بتخطي جنودي أولاً إن أردت ذلك!

- أيها الجبان!

صرخ وهم يضرب بسيفه، إلا أنه تلقى ضربة قوية على رأسه فسقط على الأرض.

- يبدو أنك نسيت الاسترخاء أيها القائد ليون.

كلماته لا تجعله إلا أشد غضباً، لكن إيميلي أمسكت به هذه المرة:

- سيدي!

- أوه! إيميلي!

لكنه صمت وابتسم حين رأى عيناها الممتلئتين بالظلام، فعاد ينظر إليه وقال بسخرية:

- يبدو أنك حصلت أخيراً على أصدقاء.

- أيها ... !

فأمسكت به إيميلي بقوة:

- سيدي!

نظرات التعالي التي يرمقه بها بينما يحاول التخلص من أذرع إيميلي جعلته أشد غضباً، فدفعها بعنف وهم بسيفه نحوه، إلا أن أعين الجنود المحيطين به أبرقت ببصيص أحمر قاني، فصرخا كلا من إدوارد وإيميلي بذعر:

- سيدي!

كادت أن تكون ضربة واحدة من جندي منهم كافية بقتله، لكن إيميلي صدت الضربة بمهارة لتقلل من اندفاعها إلا أنها ألقتها بعيداً واصطدمت بساق شجرة لتترك مغشياً عليها.

- إيميلي!

أراد أن يتحامل على جراحه مما أنتجته الأشعة المتبقية، لكنه فوجأ بسيف أنيس موجهاً نحو عنقه، عيناه تنظران نحو من الأعلى، تلمعان ببريق مخيف، وهمس:

- ألم أقسم بأن قدماك لن تطأ بلاط القصر مجدداً! أيها الخائن!

توسعت عيناه ليون وارتجف بؤبؤيه من الذعر، وكأنه يرى في تلك النظرات ذكريات ليس عليه تذكرها، حين أيقظه صوت سليل السيوف، فيجد إدوارد ملقاً على الأرض مغطى بالدماء، ارتجف جسده وأخذ يهلوس ويصرخ بذعر:

- لا، لا، لا ...

أصبح جسده ينتفض وهم يزحف بعيداً باتجاه إدوارد، إلا أن آخر شيء استطاع سماعه قبل أن يتلقى الضربة الأخيرة:

- لا تشح بنظريك وأنا أمامك!

...

على المكتب قبضتان ترتجفان، بينما تلك الملفات تتربع بينهما، والمكان مشحون بسحاب من أسود يبرق ويرعد من الغضب، بينما خرج صوته المخنوق:

- ما الذي يعنيه هذا؟

ابتلع صوته ما تبقى من كلماته، بينما يقف مارون بهدوء أمام مكتبه، حين خرج صوته متزناً:

- ألا ترى أنها فرصة جيدة لسموك؟

- هل تعني أنني سأتعاون مع ذلك الجرذ حتى يتسنى له الحراك؟ هل تظنني بهذا الغباء؟

- سموك، أفهم شعورك جيداً، لكن إن سلمت سيراف بدلا من القائد ليون فذلك سيزيد من ثقتك في مجلس اللوردات.

قبض على يديه واتكأ برأسه، ثم أخذ نفساً عميقاً، وتساءل:

- هل تدرك لمَ لم أرسل سواك إلى هناك، مارون؟

فأخفض مارون رأسه وقال:

- أدرك ذلك سموك.

- تدرك ذلك، ومع ذلك تأتي لتخبرني بهذا.

- سيدي، لدي سبب وجيه.

- وهو؟

أخذ بضع دقائق قبل أن يتقدم، ويخرج ذراعيه من خلف ظهره ويضع أمامه الملفات التي أخذها من الملازم تيم مسبقاً، نظر روهان نحو مارون بدهشة، ثم نحو الملفات، ثم نحو مارون مجدداً، حين قال الأخير:

- إنها تجارب سرية أقيمت على الجنود لاستخراج الإكسير.

...

الفصل الثالث والأربعون

 يجلس روهان على مكتبه شابكاً بأنامله، بينما يتكئ برأسه عليها، أمامه ورقة منفردة، يتأملها بنظرات مشمئزة، بينما تخرج منه هالة مرعبة، لشدة رعبها انتقلت تلك الهالة للورقة فجعلتها تتطاير في ذعر، الهالة التي تحيط الغرفة جعلت الخدم وأصدقاءه من الجنود يتجنبوها لا محالة، بينما يعودون بساقين مرتجفتين.

أحتى رأسه بخفة وخرج صوته مستميتاً:

- لم تنتابني رغبة عارمة برؤيتها!

ثم رفع رأسه واتكأ به على ظهر الكرسي، وأطال بنظره نحو السقف، لتتلألأ الثريا وتتلألأ معها عيناه، وكأن ذلك البريق يسيطر على عينيه، يأسرهما بسحره، فهو كبريق عينيها. شرد بتفكيره لوهلة، أغلق عينيه ثم ابتسم، وهدأت الهالة المرعبة حوله، ثم فتح عينيه ونهض، أمسك بسيفه الذي يتركه على جانب الرف وخرج من غرفته، يبدو عليه الانتعاش لقرار حاسم، بينما ابتعد الخدم المتناثرين في الأرجاء ينظرون نحوه بدهشة ثم يرمقون بعضهم بنظرات تساءل لا إجابة لها.

...

دخلت غرفتها بعد ليلة طويلة ومرهقة كالمعتاد، فتحت الباب بهدوء وطرقته بهدوء كي لا تزعج زميلتها في الغرفة، فالوقت أصبح منتصف الليل، هذه المرة سلبها الوقت حقاً بالكاد تشعر بجسدها، الجلوس الطويل يبسه وجعلها كاللعبة الخشبية. إلا أنها اتجهت نحو الخزانة الصغيرة بجانب سريرها، فتحت الصندوق الخشبي الصغير وأمسكت القلادة بين يديها، نظرت نحوه تلكل اللؤلؤة التي تلمع خلال الظلام وكأنها النور الوحيد في تلك الغرفة، ترسل شعاع دافئاً نحوها يشعرها بالتحسن، ضمت اللؤلؤة إلى صدرها، وأخذت نفساً عميقاً، ليفاجأها صوت طرق على النافذة.

الهدوء والسكون في المكان جعل طوت النقر مفزعاً، نظرت نورس نحو صديقتها النائمة عدة مرات لتتفحصها بقلق، ثم همت تفتح النافذة بحذر، لتجد حمامة صغيرة تطرق برأسها النحيل، ولأنها لم تلحظ فتح النافذة طرقت برأسها لتصطدم بأناملها، سحبت نورس يدها بذعر، نقرتها قارصة إلى حد مفزع وكأنها لسعة كهربائية، شعرت بالدموع تخرج من عينيها وحاولت أن تلعق مكان الإصابة بلسانها لعل تأثيرها يخف. ثم لاحظت أن الحمامة لا تزال تنقر برأسها، وتتحرك بشكل آلي، ربما شيء ما على رأسها يزعجها، حملت الحمامة بحذر ورفعتها نحوها ليلمع شيء ما على عنقها فجأة فيشوش رؤيتها، لكنها حاولت أن تتمالك نفسها ولا تسقط الحمامة التي على يدها، ثم حركت رأس الحمامة لتلمس طوقاً من الذهب المنقوش حول عنقها.

"أي شخص متحجر القلب يمكن أن يضع مثل هذا الشيء الثقيل على عنق حمامة صغيرة"

همست في نفسها بغضب، لتفكه عنها بسرعة، وتجد لفافة ورقية تتدلى منها برشاقة، فتحت اللفافة بدهشة، ثم شهقت لمعرفتها بهوية ذلك الشخص متحجر القلب الذي تحدثت عنه، شعرت بقلبها يخترق صدرها وهي تقرأ اللفافة، عيناها ارتخت وذرفت الدموع بجشاعة، وبدأت تسمع نبضات قلبها تخرج من أذنيها، شعرت بصدرها يضيق فأمسكت به بتلقائية، لم تعد تستطيع حمل ساقيها، فارتخت على ركبتيها وغطت ثغرها لتخفي شهقاتها وأجهشت بالبكاء.

...

الرياح تهب باندفاع شديد، حتى أنها لم تعد تسيطر على ساقيها، تسحبها الرياح بعيداً على قمة التلة، بينما تبدو السماء صافية مزرقة كمرآة نقية. وقف هناك شامخاً على القمة، أشعة الشمس خلفه ترسل بريقاً ساطعاً من على كتفيه المرصعة بالذهب، بينما يرفرف وشاحه الأرجواني بعنف كأنه يصارع البقاء. بالكاد استطاعت النظر نحوه مع تلك الرياح، لكنه أيضاً لم يلتفت نحوها، بقيا لوهلة صامتين ثم خف هبوب الرياح قليلاً كأن الوقت تباطئ قليلاً ليمنحهم الفرصة. صرخ:

- يجب أن تعودي إلى القصر!

لم يكن ينتظر إجابة لكنه يدرك وجهها الذي مط بعلامات الدهشة.

- لا أدري لم أنا تائه بدونك.

ثم التفت نحوها، كانت مشغولة بازاحة خصلات شعرها المتنمرة على وجهها، وثوبها الذي يتمرد عن جسدها بشراسة، لكنها رفعت وجهها نحوه بكل ثقة عيناها وحدها تشعان بكلمات لا يمكن إلا قراءتها:

"لا أستطيع"

- إن كان ذلك من أجل الحاكم، فسأتدبر أمره

أشعت عيناها ببريق الاصرار:

"لا تفعل"

قبض على يديه بقوة، يعلم تمامًا أنه طلب أناني، لكنه يريد رؤيتها، وحدها من يجعله يشعر بالراحة بين هذا العالم الوحشي حوله، خداع نفاق وألعاب خسيسة لكنها ببراءة عينيها تجعله يشعر بالصفاء، لا يزال هناك أمل لا يزال هناك نقاء.

- إذاً

تردد:

- هل يمكنني على الأقل أن ألقاكي هنا كل أسبوع؟

لم تستطع أن تسيطر على شبح الابتسامة الودودة التي ارتسمت على وجهها، وجهها النض ووجنتاها الورديتين، هزت رأسها بالايجاب لتشرق عينيه ببريق السعادة.

- أعدك أنني سأبذل جهدي!

اقترب، خطواته ثقيلة مع اندفاع الرياح، رؤيته يتقدم نحوها بذلك الشكل لم يسعها سوى أن تتلألأ عيناها بالدموع، أو ربما الرياح من نكزت غددها الدمعية، إلا أنها متأكدة كل التأكيد أن بكل خطوة يخطو بها نحوها تجعل قلبها يريد الخروج، طنين هائج يخرق أذنيها، اقترب منها، لامست أنامله بطراوة وجنتها الناعمة، شعرت بجسدها متصلباً، تسمرت مكانها وتجمدت ملامحها، عيناها تتلألأن بدموع عالقة تنظر نحو عينيه اللتين تنطران نحوها بوداعة يتشوش وجهه لبرهة في ناظريها ثم يستقر، خرج صوته العذب برقة:

- أتسمحين لي؟

لتجد رأسها يؤمئ بتلقائية، فتجد رأسها يتجه نحو كتفه بانسيابية، ثم اقتحمت رائحة عطره أنفها وامتلأت رئتيها لتشعر بعضلاتها المتشنجة وهي تسترخي، ثم تجد ذراعيها تحوط صدره فيسري في جسدها دفئ لطيف، تشعر وكأنك تسترخي بين الغيوم.

جلسا أسفل شجرة دراق، على جانب من جوانب التلة، يستقر كوخ مهترئ يحيطه أشجار كثيفة تتلألأ قطرات الندى على وريقاتها الرطبة، تسيل تلك القطرة بحركة مرنة كدودة قز كسولة ثم تلمع كبلورة كريستالية على ضوء أشعة الشمس ثم تسقط مع نغمة موسيقية منعشة، تتراكم تلك النغمات مع كل قطرة تشكل سيمفونية عذبة، بينما تترصع تلك الأشجار بجواهر مشعة من الدراق، يلمع لونه الأحمر القاني كزمردة تتوهج بكل ثقة على تلك الأشجار النضرة.

تتكئ برأسها على كتفه، ويتكئ برأسه على رأسها الغض، يشعر بعظام رأسها الناعمة، تجعله يغمض عينيه وكأنها ينام على وسادة من الريش. حتماً قربها نحوه يمده القوة، يشعر الآن وكأن لكل شيء نهاية، تتراقص الأفكار في مخيلته واحدة تلو الأخرى، وكأنه ينظر بعينٍ مغايرة. رفع رأسه ونظر نحوها، فأزاحت رأسها ونظرت نحوه، عيناها البريئتين البلهاوتين متوهجتين متورمتين، وظلال مشاكسة تبيت أسفل عينيها، أخرج منديلاً من جيبه وأخذ يمسح وجنتيها، ثم همس بلطف:

- تعبتِ، أليس كذلك؟

أخفضت رأسها في محاولة لإخفاء بؤسها، فاستطرد:

- أنا آسف، كان ذلك بسببي.

استيقظت عيناها لتفتحهما على مصرعيهما، حين أردف:

- أردت أن أخبرك بذلك.

شدت على قبضتها التي بدورها تمسك ثوبها، تعض لسانها العاجز عن التعبير، رؤيتها بهذا الشكل جعله متردداً حائراً، هل يتقدم بخطوته التالية أم يتراجع، لكنها سرعان ما توقفت عن عض لسانها، وارتخت ذراعيها، ليخرج صوته الهادئ يشوبه مسحة من التوتر:

- أردت أن أعرف ....

ثم أشاح ببصره بقلق:

- ... أردت أن أزيح عنكِ هذا الحمل ... لكنني انتهيت بقلب الأمور.

طأطأت برأسها بأسف، وأخذت تصرخ في رأسها:

"أنا أعرف، أعرف ذلك! لكن لم يكن باليد حيلة سوى الشعور بالغضب!!"

- هل يمكنكِ أن تكوني إلى جانبي؟

نظر نحوها ومد يده، بينما ومضت عدة ومضات تستوعب ما الذي يجري، عيناها تشوبها الحيرة والخوف، نظرتها نحو يده بتلك الطريقة جعله يستشعر ترددها، لابد أنها في موقف صعب، يبدو أنه يثقل عليها أكثر! فسحب يده، ابتسم ابتسامة فاترة وقال:

- لا بأس، ليس عليكِ أن تجيبنني الآن.

تلون على وجهها الشعور بتأنيب الضمير، عيناها ذبلتا بعيداً، وزمت شفتيها بألم، الأمر ليس وكأنها لا تريد، ولكنها لا تستطيع! فهي لم تعد نورساً بأجنحة بعد الآن.

...


الفصل الثاني والأربعون

 الرحلة نحو الشمال لم تكن بالأمر السهل، تحضير حجة مقنعة لمغادرة العاصمة في هذا الوقت المتأزم، لذلك لم يكن لدى روهان أي خيار سوى أن يقدم اعتذاراً عن الحضور. لم يفاجأ أنيس بذلك، بل كان متوقعاً، إلا أن الملاحظة الأخيرة في الرسالة جعلته يبتسم وقال بإعجاب:

- ذلك الفتى!

- هل قلتَ شيئاً؟

نظرت كريستينا نحوه وهي تداعب الكلاب، فنفض الأوراق على المكتب وقال ببرود:

- ألا يجب أن تعودي إلى الأكاديمية؟

- لكننا في إجازة.

- إجازة؟

- أجل، ألا تعلم؟ إنه ذلك الوقت حيث تتعطل الدروس ويعود كل إلى بيته.

امتعض وجهه، وشعر بالغضب والضيق يعري رأسه، همس:

- لم أطلب هذا التوضيح.

نظراتها البلهاء نحوه جعله يتنهد ويأخذ نفساً، أغلق عينيه ثم فتحها ليعود إلى هدوءه واستطرد قائلاً:

- و؟

- و ماذا؟ هل تريد التخلص مني لهذا الحد؟

- الأمر ليس كذلك، لكنني لا أستطيع الخروج من القصر وترككِ هنا.

ثم نظر نحوها بجدية، وخرج صوته غامضاً:

- لا تجعلي الأمر صعباً علي، لا أريد أن تصل أخبارٌ عنكِ أو شقيقتك إلى الحاكم.

عبست، لكنه أشاح وجهه، يعرف تماماً ما ستفعله، ستبدو الآن يائسة وضعيفة، تستخدم ملامحها اللطيفة لتضعف قراراته، لكنه يفعل ذلك لحمايتها، لا يمكنه أن يضعها في الخطر كما حصل في الماضي، لا يريد تكرار الخطأ مرتين. نهض وقال قبل أن يغادر الغرفة:

- غادري!

ما إن خرج، حتى قابله مساعده، قدم تحيته ليظهر خلفه رجلُ أعاد لأنيس جديته، نظر نحوه بجمود ثم سمع همس مساعده:

- لقد وصل مساعد الأمير الثاني.

أخذ يتأمل أنيس الرجل باهتمام، يتفحص كل جزء من أجزاء جسده:

"إذاً هكذا يبدو رجال القصر الملكي الآن!"

شعر مساعد الأمير بتردد سيده، فهمهم بنبرات منبهاً، ما جعله يستيقظ من شروده ثم أشار بيده ليدخلوا مكتبه.

ما إن دخلوا المكتب كانت كريستينا بالفعل مغادرة، والكلبين نائمين على السجادة الدائرية الصغيرة حولها الأرائك، بدا مارون مندهشاً لوجود كلاب حراسة بهذا الشكل، ما جعله قلقاً، فقال أنيس مطمئناً:

- لا داعي للقلق، فهم مدربين بشكل جيد.

قدم مساعد الأمير لمارون مقعداً، وجلس على إحدى تلك الأرائك، بينما وقف أنيس قبالة النافذة الشاهقة التي تطل نحو السماء، لا ينكر مارون أن القصر نال إعجابه، كما أن موقعه مثير للاهتمام، كان يمسح الغرفة بناظريه بإعجاب حين تكلم أنيس أخيراً:

- يبدو أن سمو الأمير يملك من يثق به.

كلماته ليست بالأمر الجلل، لكن كونها عن الأمير الثاني جعلتها حادة كالسيف.

- مارون لازاك ..

ثم نظر نحوه ليجد وجه مارون مصفراً، وعيناه مشدوهتان:

- عشيرة لازاك المتوحشة، أشباه الذئاب، أليس كذلك؟

- أنى لك معرفة ذلك؟

رغم محاولته ضبط نفسه إلا أن نبرته شابت بقليل من التوتر، ذلك لم يكن صعباً على أنيس لملاحظته فابتسم ابتسامة خفيفة، وتقدم نحو إحدى الأرائك قبالته، وأخذ يلمس ظهرها، ثم قال:

- أنت لا تعرف ذلك ..

ثم نظر نحوه نظرة حازمة مرعبة، جعلته يتجمد مكانه:

- ... لكنني أعرف الكثير.

ثم عم الصمت، كلاهما يحدقان بالآخر، أحدهما متجمد من الذعر وآخر يهاجم بنظراته الماكرة، شحنات متوترة تضرب المكان، فم مارون يرتجف حتى تمالك شفتيه أخيراً ونطق:

- سموك .. من أنت؟

- أوه!

ابتسم بلطف، وتقدم نحوه ثم جلس على الأريكة قبالته وأركى برأسه على ذراعيه التي بدورها ارتكت على فخذيه، وقال بحماس:

- هل أنت فضولي بشأني؟

ابتلع مارون رمقه بذعر، ابتسامته اللطيفة تحولت إلى ابتسامة ماكرة، تحول ملامح هذا الرجل مرعبةٌ جداً. هز رأسه وهمس:

- أجل!

أرخى ابتسامته وأعاد بظهره إلى الوراء، كانت الخادمة بالفعل موجودة تنتظر الإشارة لتقدم الضيافة، ما إن التمس أنيس حضورها حتى أشار لها بوضع الشاي والحلوى، بينما بقي مارون متسمراً يجلس كالرجل الآلي.

- لا داعي للقلق، لمَ لا تجرب الحلوى الشمالية؟

قال مبتسماً في محاولة لتلطيف الجو، وجعل مارون مسترخياً، حاول مارون أن يبتسم ويشكر حسن ضيافته، الشاي بلونه الذهبي القاني، وتلك الحلوى الملونة تجعل المرء جائعاً، لكنه يشعر بضغط كبير ليبدو سعيداً وهو يتناولها. ما إن لمس طرف الكوب شفتيه حتى خرج صوت أنيس:

- إذاً لندخل صلب موضوعنا.

تراجعت الكوب من يده كردة فعل، ونظر نحو أنيس الذي ينظر نحوه بتلك العيون الحازمة، وجهه خالٍ من أي تعبير ويسند بجسده على الأريكة بأرستقراطية.

- لدي السجين الذي تبحثون عنه، لكنه حقاً يسبب لي الكثير من المتاعب.

ثم تنهد بنفاذ صبر، ما جعل مارون ينظر نحوه بدهشة، لم يفكر حقاً أن رجلاً مرعباً مثله سيكون صادقاً معه بشكل أو بآخر، أو ربما هو عفوي يقول ما يخطر بباله، أم هل يحاول تخفيف الضغط عنه؟ إنه بالفعل جيد في جعله مشوشاً.

- سموك ...

خرج صوت مارون ثابةً أخيراً:

- .. هل تعني ذلك حقاً؟

فنظر أنيس نحو باستغراب، وسأل:

- وهل تظنه شيئاً آخر؟

- أن تطلب من سيدي المخاطرة ...

- آه ...

عدل أنيس جلسته، ثم نظر في عيون مارون بتحدٍ، وقال:

- أليس لسيدك الكثير من الأاسئلة؟

تراجع مارون بفزع، ذلك الرجل يفاجأه في كل مرة، ثم سأل:

- لمَ سموك يتوقع أن لسيدي الكثير من الأسئلة؟

فابتسم ابتسامة ساخرة، ثم أشاح وجهه وقال:

- أليس ذلك منطقي بالنظر لوضعه كأمير دخل القصر بعد سن العاشرة!

- سموك .. 

تساءل مارون:

- أنت لا تنظر نحو سيدي بهذا الشكل، أليس كذلك؟

عاد ينظر نحوه، هذه المرة مارون ينظر بعينين متقدتين، حين خرج صوته عميقاً:

- ما هدف سمو الأمير الحقيقي؟

تبادلا النظرات لوهلة، ثم قاطعهما بابتسامة باهتة وعاد يتكئ بجسده، ثم قال بنبرة متعالية:

- لا شيء، إنها صفقة خاسرة من طرفي، سيدك يريد المعلومات وأنا أريد التخلص من ذلك السجين!

- ما الذي يجعل سيدي يثق بسموك؟

- ألستم بحاجة إليه؟

نظرات أنيس الواثقة، ابتسامته الماكرة التي ترسم وجهه الوسيم، هالته الباردة التي تجعل حضوره مرعباً، وكلماته الصادقة جعلت مارون يفكر ملياً بشأن هذا الرجل، إنه ليس بالند السهل! أخذ مارون بعض الوقت ليجيبه، لكن أنيس صفعه بتساؤلاته:

- ألست تتساءل إن كان ليون حقاً سيقبض عليه بعد أن تركه يرحل؟ هل كان ذلك متعمداً؟

بدا أنيس وهو ينظر نحو أنامله التي يرفعها نحوه وكأنه يتساؤل بعفوية، لكن أسئلته تلك جعلت مارون مذعوراً، كيف أمكن لذلك الرجل أن يقرأ أفكاره، أوليس ذلك ما جعل سيده يتحرك؟

- سموك ... 

خرج صوته بصعوبة:

- إلى أي مدى يعرف سمو الأمير؟

فعاد يتكئ على ذراعيه وينظر نحوه بحماس:

- هل أنت حقاً فضولي بشأني؟

تردد مارون قبل أن يجيب:

- ما الذي تريده من سيدي؟

فزم شفيته في محاولة لإدعاءه التفكير، ثم قال:

- لا شيء حقاً، ما أريده هو أن أزيح هذا الحمل عن كاهلي.

- و؟

- بالمقابل، سأقدم لسيدك معلومة جيدة، هل تريد أن تعرفها؟

شد ذلك مارون بالفعل، حرك جسده وفتح حواسه مترقباً، فأجابه أنيس دون أي تأجيل:

- أخبر سيدك ذلك جيداً، إن كان يريد الوصول لإجابة تساؤلاته، فليتحقق من أمر القائد ليون.

- القائد ليون!

هتف مارون بصدمة، لم يكن أحدٌ يعر القائد ليون أي اهتمام حقاً، فهو ليس بالرجل الذي يعتمد عليه، حتى تفوقه على الأمير لوكاس كان محض صدفة لم يكن لأحد أي تفسير لها، شعر لوهلة أنه مشوش، هناك الكثير من الخيوط المتشابكة، إلا أن أنيس قطع شورده بنهوضه، وقال مشيراً نحو الباب:

- والآن، هل تريد مني إرشادك إلى السجين؟

- أجل!

...

الظلام الدامس أسفل الجسر، الهدوء العائم بين موجاتٍ منبعثة من خرير الماء، ضوء خافت صغير يشع بوضوح في ذلك السواد الحالك، بينما خطوات منظمة تطرق الأرض الحجرية يصدح صوتها داخل الخندق. أحدهم يمسك شعلة خفيفة يغطي جسده ورأسه بعباءة سوداء بينما يحمل الآخر فانوساً صغيراً ويرتدي عباءة مماثلة، ما إن اقترب نور الفانوس من شعلة الرجل الصغيرة، حتى تراقص ظلهما على الحائط الحجري المقوس.

- سمعت أنكَ فشلت هذه المرة.

- ...

- كيف ستواجه الحاكم بهذا الفشل؟

- سأحاول إصلاحه.

- إصلاحه؟ لقد قبض على سيراف، الدليل المتبقي لإعلان وحشية ذلك القذر.

- خالص إعتذاري، سأبذل كل ما لدي لإنقاذه.

- إنقاذه؟ هاه! أنت لا تعرف أين هو، أليس كذلك؟

صمت، فعاد يقول الرجل الذي يحمل الشعلة الخافتة:

- إنه عند ولي العهد.

بدت وقع تلك الكلمة على مسامعه بالشيء العظيم، فها هو متجمد مكانه، لولا تلك العباءة والظلام الذي يغطي وجهه لتبينت ملامحه المصدومة كتمثال منحوت.

- ليون.

علق الرجل ذو الشعلة مهدداً:

- هذه المرة ستودع رأسك الغبي.

ثم سحب الرجل عباءته وهم يغادر، تطرق أصوات خطواته على الارض الحجرية ويتمادى صداها، بينما تتراقص الشعلة داخل فانوس ليون الذي تجمد مكانه كالجثة الهامدة.

...


الفصل الواحد والأربعون

 أصوات زقزقة العصافير ترصع الهواء بنغمات موسيقية تدخل في قلبك السكون، بينما تلمع السماء الصافية بوهج من أشعة الشمس الصافية ترسل ستائراً مضيئة من الأشعة الذهبية لتغطي الأزهار الملونة على طول الطريق، بينما يتقدم بخطواته تتكاثف الشجيرات، حتى يصل إلى المساحة المستطيلة التي ترسمها أحواض الجدران المشجرة، تجلس على الأريكة البيضاء السيدة لافرتين بوجهها الوقور الهادئ تحتسي الشاي الذي وضع الإبريق على الطاولة الصغيرة الشفافة.

- سموك.

نهضت مذ شعرت بحضوره، وتركت كوب الشاب على الطاولة، تقدمت نحوه لتقدم تحيتها وتطلب منه الجلوس، جمع روهان شجاعته وهم يجلس على الكرسي الزجاجي قبالتها، بعد أن جلست السيدة لافراتين، قبض على يديه عدة مرات قبل أن يخرج صوته الهادئ:

- أيتها الدوقة، أحتاج لتعاونك.

لم تبدي السيدة لافرتين أي انفعال، استمرت برشف الشاي، وبعد ثلاث رشفات وضعت الكوب على الطاولة، ثم قالت:

- هل هو ذلك الأمر مجدداً؟

- لا!

قالها بحزم، فنظرت نحوه بدهشة، ثم تساءلت:

- ماذا إذاً؟

شعر ببعض الشجاعة تتدفق إليه، فارتخى كتفيه، وأصبحت نبرته أكثر استقراراً:

- هلا أخبرتني عن الدوقة روزي من فضلك؟

توسعت عيناها وهمست:

- السيدة روزي؟

- أجل، صادف أن وجدتها في إحدى تجمعات الهيكب.

توسعت عيناها أكثر، ثم ضربت الطاولة بعنف ووقفت:

- هذا لا يمكن!

رفع رأسه ونظر نحوها بهدوء:

- وأنا أيضاً لا أفهم ذلك!

نظرت نحوه، وجهها متجمد يرسم ملامح الصدمة، وعيناها تدوران في كل مكان تائهتان كأنهما يبحثان في شيء مجهول، وما هي لحظات حتى بدأت تفقد شعورها بقدميها وسقطت مغشياً عليها، هم نحوها روهان مسرعاً ليلتقطها، وصرخ للمساعدة، فهمت وصيفتانها نحوها، ما إن استلمت الوصيفتان السيدة حتى ابتعد روهان متراجعاً، لم يمضِ بضع دقائق حتى استعادت السيدة لافرتين وعيها، ورفعت يدها نحو الوصيفتان، لا تزال شبه واعية، تهلوس بعض الكلمات الغير مفهومة، شعر روهان بالذعر، ربما كان من الخطأ سؤال السيدة لافرتين مباشرة، ولكنها سرعان ما نادت باسمه:

- روهان

فهم نحوها مسرعاً وأمسك بيدها:

- سيدتي أنا هنا!

- روهان ... هل كانت روزي حقاً؟

تردد، نظر نحو الوصيفتين مستنجداً فهزتا رأستهما، فنظر نحوها وهمس:

- أجل سيدتي، فتاة في أواسط العمر تشبهك تقريباً.

- آه!

تهاوت على الوسادة، وغطت عيناها بذراعها، فهتف روهان بفزع:

- سيدتي!

إلا أنها رفعت ذراعها عن وجهها، ثم نظرت نحوه، ربتت بيدها على كتفه، عيناها تتلألآن بدموع حزينة، ووجها شاحب كالأشباح، شفتيها غائرتين ما جعل تحريكهما شبه مستحيل، فخرجت كلماتها بصعوبة:

- روهان، روزي ضحية، ضحية عملٍ شنيع، هي لم تكسر المعاهدة بإرادتها على الإطلاق.

قاطع كلماتها سعالها، فهمت نحوها وصيفتانها ليساعدنها على شرب الماء من الكوب الذي حضرته إحداهن لها، وتراجع روهان مجدداً، حين خرجت كلمات السيدة لافرتين مجدداً:

- يوجد الكثير من الأعداء لعائلة لافرتين، أنا متأكدة أنكَ ستجدهم.

ثم أغشي عليها مجدداً، صرخت الوصيفات بفزع:

- سيدتي، سيدتي.

- لا تصرخن هكذا ... أريد بعض الراحة.

نظرتا نحو بعضهما بدهشة، ثم نظرتا نحو روهان، الذي انحنى معتذراً بدوره، وقال بلطف:

- إذاً أعتذر المغادرة، سأبذل جهدي في حل هذا الأمر سيدتي الدوقة.

خرجت ابتسامة شبحية حزينة على وجه السيدة لافرتين، لكنها لم تكن لتقوى على الحراك أو قول شيء، لكنها متأكدة أن ذلك الرجل الذي يختفي ظهره أمامها شيئاً فشيئاً قادرٌ على تخليص هذه المملكة من هذه المعاناة.

...

كان يرفع روهان رأسه عالياً على ظهر الكرسي ويغمض عينيه، يحاول أن يربط ويفكر في الأحداث التي حصلت حتى الآن، ثم أخفض رأسه المثقل وتنهد، ثم هز رأسه وهمس:

- يا لها من فوضى!

طرق الباب، ودخل مارون بيده ظرف أبيض، انحنى ثم اقترب ووضع الظرف على المكتب، وقال:

- سيدي، هذه رسالة من أمير المنطقة الشمالية.

نظر روهان نحو مارون تلك النظرة كما لو أنه يراه للمرة الأولى، ثم هتف:

- مـ، مـ، من ... ماذا؟

- من الشمــال!

مد في كلامه مداعباً، فأمسك روهان الظرف باقتضاب، وتساءل:

- ما الذي سيجعل ولي العهد يرسل إلي على أية حال!

ما إن فتح الرسالة، وقرأتها، حتى توسعت عيناه على مصرعيها فتساءل مارون:

- ما الخطب سيدي؟

نظر روهان نحو مارون وومض عدة ومضات والذي بادله مارون الومضات ذاتها ينتظر منه الإجابة، حين همس روهان بذعر:

- يقول إنه قبض على سيراف ..

تجمد مارون مكانه، وومضت عيناه في محاولة لتحليل ما سمعه قبل قليل، عندما أردف روهان:

- يقول أنه سيسلمه لي مقابل أن آتي لشرب الشاي معه.

امتعض مارون وجهه باستغراب، وتساءل:

- يا لها من مقايضةٍ غريبة!

- أخبرني مارون ...

تساءل روهان وهو ينظر نحو الرسالة:

- أكان ولي العهد بتلك القوة؟

- أهذا ما يلفت انتباهك؟

هتف مارون مذعوراً:

- الأهم من ذلك، كيف ستذهب إلى هناك؟

وضع روهان يده أسفل ذقنه مفكراً، ونظر نحو الرسالة ذو الثلاثة سطور بإمعان، ثم خرج صوته عميقاً:

- بالنظر إلى وضعه، لابد أنه فكر ملياً قبل إرسالها إلي.

- و؟

تساءل مارون متلهفاً لاستنتاج سيده، فنظر روهان نحوه بعينين جديتين، وقال:

- لابد أن هناك ما يريد إخباري به، ربما يمكنني فهم بعض الأمور حول تلك الفوضى.

تراجع مارون بظهره قليلاً، وشبك ذراعيه، ثم تساءل:

- مقابل ماذا؟ تسليم سيراف؟

وجم روهان لوهلة، ثم همس في خيبة أمل:

- أنت محق!

- هل تعتقد أنك ستكون على وفاق مع ولي العهد؟

- أعلم ذلك.

- إذاً لابد أنه يرغب في تسليم سيراف لحماية نفسه مقابل بعض الفوائد.

ومض روهان عدة ومضات وكأن فكرة خطرت بباله، ثم هتف:

- تلك هي يا مارون!

نظر مارون نحو روهان مصدوماً، بينما هم روهان من مكانه وقال:

- علينا أن نحزم أمتعتنا.

- انتظر، انتظر!

فالتفت روهان إليه متسائلاً، حينها تساءل مارون:

- ماذا بشأن الحاكم، أليست تلك مقابلة في غاية السرية؟

ربت روهان على كتف مارون وابتسم ابتسامة تدل على رثاءه لحاله، وهمس:

- بالتأكيد يا بني، هل تظنني أحمقاً!

ثم هم يخرج من الغرفة، ما إن طرق الباب حتى نظر مارون نحو الباب بصدمة، وجهه لا يزال مشدوهاً، وهمس في نفسه:

- ما باله يتصرف بغرابة!

...


الفصل الأربعون

 في الجهة الأخرى من الشمالي للمملكة، قصر أبيض شاسع أعلى جبل شاهق شديد الانحدار، يحيطه فضاء واسع تزخرفه الغيوم، بينما يقف الأمير أنيس بجانب إحدى النوافذ الطويلة التي تغطي الغرفة فتشعل الغرفة بنور أشعة الشمس، يعطي جو الغرفة شعوراً دافئاً وكأنك لست في غرفة من جدران وإنما تجلس وسط الطبيعة.

شرد أنيس في السماء، الغيوم تبدو شيئاً يستحق المشاهدة من مكانه، والطيور تحلق بشكل اعتيادي، تنهد بعمق حين سمع ضجة كلاب الدوبرمان السوداء، نظر باتجاه الباب، ليجد كلباه يدلفان ثم ظهرت كريستينا التي كانت تمسك لجامهما، مدت يدها مرحبة بخجل تعلو وجهها ابتسامة بلهاء، ثم جثت لجانب الكلبين وفكت لجامهم، حين هم الكلبين يلعقانها ويداعبانها.

كلب الدوبرمان كلب شرس، وكلبا أنيس ليسا من النوع الودود نحو الغرباء، بالكاد استطاع أحد من الخدم أو الحرس التعامل معهما، كريستينا هي الشخص الثاني الوحيد بعد أنيس والذي يصبحان معهما بهذا الود، وكأنهما طفلين يطلبان الرعاية. ابتسم أنيس بتلقائية ابتسامة خافتة، ثم عاد شارداً في النافذة، لاحظت كريستينا تصرفه الغريب هذا، فهو يقترب من الكلبين ويداعبهما بعد جولتهما معها. نهضت ونظرت نحوه بدهشة ثم تساءلت:

- أمن خطب ما؟

تنهد، تناولت كريستينا كيساً قماسياً من جيب ثوبها، وفتحته للكلبين حتى ينشغلان عنها، داعبتهما بلطف:

- هيا، خذا هذه.

نظر أنيس نحوها وهي تطعم الكلبين، رائحة زكية جعلته متنبهاً، اختلس النظر في محاولة لمعرفة ما يأكلانه، وجابه الفضول ليقترب، أمسك ذراعها فوجد قطعاً من البسكويت المتفحم، تجمدت كريستينا مكانها إثر المفاجأة، نظرات أنيس نحو البسكويت تظهر خيبة الأمل بشكل واضح، أفلت يدها بعنف، وهم يعود نحو النافذة، بينما بقيت كريستينا جاثيةً كالتمثال حتى أنها لم تشعر بالكلبان وهو يقتربان من الكيس في يدها.

- يبدو أن لمايك وبيتر مكانة أعلى مني في قلبك.

شهقت ببطئ، وفتحت ثغرها بالتدريج ثم ابتسمت بلطف في محاولة لإخفاء إحراجها، وهمست:

- لكنني ظننت أنه سيكون من اللانساني أن تتناوله.

- فتطعميه لهما.

ثم نظر نحوها باستفهام، لتزم شفتيها بحرج، فسقطت القطعة الأخيرة من يدها على الأرض، فتسابقا كلاهما على تناولها، ابتسمت بمرح، وقالت:

- أنظر، ألا يبدوان سعيدان بها.

لكن نظرات أنيس نحوها لم تتغير فعادت تتحاشى نظراته بحرج، ثم نفضت ثيابها ونهضت، توجهت نحو مكتبه في محاولة لتحاشي نظراته الغاضبة، وأخرجت منديلها العطر لتمسح يديها، سمعت صوت تنهيدته، بدا أنه منزعج جداً، فعدلت خصلات شعرها وسألت:

- بالمناسبة، هل استطاع رجالك الإمساك بالخاطف.

- تعنين سيراف ... إنه في زنزانتي.

نظرت نحوه بدهشة، لتجده عاد يحدق في النافذة مجدداً، فتساءلت:

- أستقتله؟

- أيجب أن يعيش؟

صمت لبرهة، تحاول استيعاب الأمر، ألم يكن ذلك سريعاً؟ هي تعرف أن أنيس غاضب لأنه لم يكن الشخص الذي أنقذ نورس، ولكنه إن فعل سيضع نفسه في مأزق كبير أمام الحاكم، ربما ينفيه إلى مكان أبعد من هنا ويجرده تماماً، هي لا تحتمل فكرة أن يصبح في موقفٍ صعب، لذا اقترحت عليه أن يمسك سيراف على الأقل ليلقنه درساً.

- ألا تظن ...

أخذت تلعب بأناملها على المكتب، وهي تقول كلماتها بحذر:

- ... أنه ربما يمكنك جعله في صفنا؟

ثم نظرت نحوه بترقب، تعلم تماماً أن كلماتها الآن كالقنبلة الموقوتة، لكن صوته خرج هادئاً بارداً لا أثر له من أي انزعاج:

- لا يمكن الاعتماد على شخص خان مرتين.

أنزلت بصرها نحو المكتب بحزن، ثم تنهدت، لا يمكنها أن تعترض بعد ذلك، سيراف رجل خائن هارب من قانون العدالة، ولكن ... ليس أنيس من عليه التكفل بأمره، ما إن تذكرت ذلك حتى سألت بلهفة:

- ألن تسلمه للقائد ليون؟

ظهرت على وجهه ابتسامة تهكمية، وقال ساخراً:

- أتقصدين ذلك الأحمق الذي لم يستطع البدء بالمهمة؟

- ولكن ... 

نظر نحوها، عيناه تومضان ببريق أخاذ، تعلم تماماً تلك النظرات الحازمة، لابد أن لديه خطة، لكنه سأل:

- أأخبرتني أن القائد الأعلى تدخل في ذلك؟

فهزت رأسها بطواعية:

- أجل.

فعاد ينظر نحو النافذة، ثم اعتدل في وقفته، ورسمت على وجهه ابتسامة صفراء خافتة، شعرت كريستينا بهالة شريرة تحيطه، حين قالت:

- أعتقد أنه ربما يملك مكانة خاصة لدى نورس.

نظر نحوها بدهشة، واختفت تلك الهالة المرعبة حوله، ثم سأل على عجل:

- ما الذي تعنينه؟

زمت شفتيها بتردد، ثم قالت وهي تنظر نحو أناملها التي تتراقص فيما بينها:

- أعني ... بدت مهتمة جداً بالقلادة التي أهداها إياها.

وأخيراً بعد أن قالتها رفعت رأسها، لتجده يحدق فيها بتلك النظرة الحازمة، رأت قبضته التي أبرزت شرايينه من قوة الضغط، ثم التفت بعيداً وتقدم بضع خطواتٍ نحو الأمام، ثم أطرق مفكراً، أخذ يداعب ذقنه بأنملته، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، وهمس:

- ربما بإمكاننا استغلال ذلك!

تصلبت كريستينا مكانها، تلك الهالة المرعبة عادت تستحوذ على المكان، تملكها الشعور بالبرد والخوف، هي مدركةُ تماماً لنوبات غضبه المرعبة، ولكنها لم تشعر بهذا الرعب من قبل، هوي يتحول إلى وحش فيما يتعلق بشقيقته، أو ربما تجاوز الوحوش.

اقتربت منه ببطئ، تعرف أن الاقتراب منه الآن يعد انتحاراً، ولكنها لا تحتمل أن تراه يغرق في الظلام هكذا، كان الكلبان هادئان، ونظرا نحوها بعينين راجيتين، يحثانها على عدم الاقتراب، هما محقين، فمع كل خطو نحو الأمام تشعر بالهالة تشتد، وتضغط على جسدها أكثر فتشرع بارتعاش أكبر، ما إن وصلت إليه كان وجهها شاحباً ويديها محمرتين وشفتاه مزرقة، حوطت ذراعيها حول صدره وأمسكت بيديه، فتلاشت الهالة كالسحر، ومض أنيس بعينيه عدة ومضات ثم نظر حوله بدهشة، شعر ببرودة يديها، فتملكه الشعور بالندم، شعر برأسها الصغير على ظهره بارداً كقطعة جليد، فالتفت نحوها بذعر، أمسك ذراعيها، نظرت نحوه بوجهها الشاحب، عيناها محمرتين تتلألأ بدموع محاصرة، ما إن رأى حالها حتى سحبها نحوه وضمها ، وهمس برفق:

- أنا آسف يا عزيزتي ... أنا آسف!

ما إن عاد الدفئ إلى جسدها مدت يدها وشدت على قميصه، خرج صوتها حزيناً:

- أنت تعلم كم يؤلمني أن أراك على هذا الحال.

ثم رفعت نفسها عنه، ونظرت في عينيه، تلمع عيناها بوميض بهي كلما ينظر إليه يشعر بالأمل، همست وهي تبتسم بلطف:

- دعنا نعد إلى الديار بصحة جيدة.

ابتسم ابتسامة خافتة، ثم أخفض نظراته لبضع لحظات، وعاد ينظر في عينيها، وهتف:

- أجل، لنعد بصحة جيدة.

...


الاثنين، 10 أغسطس 2020

الفصل التاسع والثلاثون

 على سريرها، تتربع اللؤلؤة بين يديها الرقيقتين، تلمع مع كل طرفة عين، تحدق بعيونها البلهاء الكبيرة نحوها، إلا أنها شردت بلونها الأزرق الفاتر الذي يذيب قلبها من الدفئ، تذكرها بلون البركة التي كانت تجلس أمامها أعلى التلة، تتابع الأطفال يتراشقن المياه بمرح، أسفل تلك الشجرة حين التقت به.

تنهدت، ثم نظرت نحو النافذة، الستائر تضفي جواً من الخشوع بين خلفية السماء الصافية، الجو ملائم لتنزه، لكنها خسرت الكثير من الوقت وعليها أن تعود إلى عملها. طرق الباب ودلفت كريستينا حين كانت نورس تنظر نحو نفسها النظرة الأخيرة في المرآة، اتجهت نظراتها نحو كريستينا التي بدت مرهقة، تحمل رداءها الأبيض الملطخ ببقع الدماء، وجهها شاحب وهالات التعب جليةُ آسفل عينيها.

- رباه!

أخذت تتذمر بعد أن ارتمت على سريرها:

- من يريد الدراسة في وقت كهذا.

ثم نظرت نحو نورس التي كانت على وشك المغادرة، فرفعت أنملتها مشيرة نحوها، ذراعها ترتجف من التعب وقالت باستنكار:

- وأنت!

ثم ارتمت على السرير مجدداً وهي تتنهد:

- رباه!

خرجت نورس على الفور، وأغلقت الباب بحذر، هي تعلم تماماً حالة كريستينا حين تعود من درس الجراحة، تتصرف كالسكيرة ولا يمكن إيقافها، لذا قررت أن تنفد بريشها قبل أن تلتهمها. عبرت الممر بهدوء، ونزلت السلالم الوحيدة المؤدية إلى ساحة الاستقبال الكبيرة، بعض العاملات يرتبن طاولات خشبية، وبعضهن يهرعن المكان جيئاً وذهاباً، شعرت نورس بالغرابة فهي لا تتذكر أن لديهم حدث مميز اليوم، لذا تجاهلت الأمرت وتابعت مسيرها نحو المختبر.

في المختبر، قاعة فسيحة من طابقين، طابق يحيط المساحة الأرضية بأطرافها ما يسمح برؤية الطرفين، في الأعلى يجتمعن الفتيات حول طاولات عليها العدد والأدوات، والساحة الأرضية يجلسن الفتيات كما المكتبة، التهمت العيون نورس لدى دخولها القاعة، وشعرت بها تنهشها بفضول، ثم أخذت الهمسات تتوالى إلى مسامعها:

- من تكون تلك الفتاة؟

- لا أعلم، ولكن أن يأتي القائد الأعلى لإنقاذها ...

- هل ربما أتت من القصر؟

- أوه، رباه! هل هذا يعني أنها هنا لمراقبتنا؟

- لابد أن لها أهمية كبيرة بعودتها سليمة!

أخفضت نورس رأسها وزمت شفتيها بحرج، حاولت أن تتنفس بعمق لتهدأ من رعبها، حتى خرج صوت نتالي حازماً:

- يا للهراء!

رفعت رأسها لتجد نتالي تقف أمامها تخاطب الفتيات بينما تقف كلاً من كاثرين وجولييت، حين أردفت نتالي:

- بدلاً من أن تكن شاكرات لعودتها على قيد الحياة؟ تثرثرن بالهراء! هل ستتطوع واحدةُ منكن لتكون مكانها؟

طأطأت الفتيات رؤوسهن واحدةً تلو الأخرى، ثم خرجت الهمسات:

- آسفات ... نحن نعتذر

ولملمن أنفسهن وعادت كلٌ منهن إلى دراستها، ثم التفت نتالي نحو نورس، وابتسمت بلطف:

- لا تقلقي، إن أردتِ إخبارهن بشيء، فيمكنني أن أتكلم عنكِ!

ربت على كتفها برفق، وهمت منصرفة تتبعها زميلاتها، بينما بقيت نورس متجمدة مكانها لا تطرف طرفة عين، تتلألأ عيناها بدموع عالقة لا تتجرأ على التمرد. بقيت على حالها بضع دقائق، ثم استعادت وعيها مع أصوات حركة الفتيات، وهمت نحو طاولتها تستعد للدراسة.

...

ما إن قاربت الدروس على الانتهاء، حتى تم استدعاءهن للامتثال في قاعة الاستقبال، تبادلن الفتيات النظرات المتسائلة، يبدو أن أحداً لا يعرف ما يجري، ما جعل استيعابهم للأمر بطيئاً. سارت الفتيات نحو القاعة، الكثير من الفتيات تجمعن من مختلف المجالات، فها هي نورس ترى كريستينا بين زميلاتها، لكنها تبدو كالزومبي من الإرهاق، لم تستطع نورس أن تكتم ضحكتها فزمت شفتيها على مضض لتجنب أي حركة ملفتة للنظر، ثم أخذت الهمسات المتسائلة تتعالى، وهن ينظرن نحو الطاولات التي استحوذت على المكان، وعلى الأغطية الورقية التي تعلوها، عليها أدوات لا يمكن لحد التنبؤ بأنها ستكون موجودة.

- انتباه!

صفقت نتالي بيدها وهي تقف أعلى السلالم في محاولة لاستراق انتباههن، وما إن هدأن، نظروا نحوها بعيون تلمع من الفضول.

- بما أننا مررنا بحادثة صعبة، أتوقع أنها أرهقت الجميع، قرر مجلس الطلبة أن نمارس معاً هذه الفعالية.

لمعت عيون بعض الفتيات بمرح، وانبسطت ملامحهن بسعادة، وأخذ ينظر البعض الآخر إلى الأدوات ويحاول تخمين هذه الفعالية، لكن سؤالهن لم يطل الإجابة، فشرحت نتالي على الفور:

- سنقوم بصنع الكعك معاً.

- إيـــه!

تهافتن، فنظرت نتالي نحوهن بدهشة، بينما تخفي جوليت وجهها بيدها بحسرة وألم، لكن نتالي ابتسمت وقالت بمرح:

- ماذا؟ ألم تخبزن كعكاً في حياتكن؟ إنها مثل التجربة الكيميائية.

تومض أعين الفتيات باستغراب، حين غمزت نتالي كاثرين وسألتها بتردد:

- أليس .. كذلك؟

- أجل أيتها الرئيسة.

أجابتها كاثرين بذلك الوجه الباسم على الفور، ابتسامتها الواسعة تجعل وجهها مضحكاً، شعرت نتالي بسخرة في إجابتها، لذلك همت تصفق بحزم:

- هيا! تحركن! أريد تناول كعكٍ لذيذ! هيا!

تدافعت الفتيات نحو الطاولات وأخذن العاملات بتوجيههن ومساعدتهم، بدا الأمر غريباً للوهلة الأولى، ولكن سرعان ما تناثر الدقيق أرجاء المكان وانهمكن الفتيات بالعمل وانسجمن معاً، بعضهن أخذن يلقين النكات، وأخريات يدندن بمرح، أخريات يتمازحن مع صديقاتهن بتلويثهن بالدقيق، وأخريات يثرثرن عن الكعك الذي يتطلعن لتناوله، رؤية ابتساماتهن جعلن نتالي تشعر بالرضا وهي تقف مكانها، كما أن جولييت توقفت عن إخفاء وجهها ونظرت نحو المكان بذهول.

- أخبرتك!

علقت نتالي بفخر:

- لا يوجد أفضل من صنع الحلويات كنشاط لتخفيف القلق.

- تبهرني أفكارك العجيبة أيتها الرئيسة.

علقت جولييت ببرود تشوبه السخرية، فنظرت نحوها نتالي بكل فخر:

- إنها تعجبكِ دائماً.

ثم تقدمت مبتعدةً عن المكان، حين نظرت جولييت نحو كاثرين التي لا تزال تبتسم تلك الابتسامة المضحكة، ما إن رأت نظرات جولييت الحادة حتى فردت ملامحها وأخذت تصفر بلامبالاة، تنهدت جولييت وهمت تنزل السلالم لتقترب من الفتيات، ما إن رأتها كاثرين تبتعد، حتى لحقت بها على الفور.

...

انهمكن زميلات نورس بعملهن بينما كن يثرثرن بسعادة ومرح، ويبدو أن الحديث يجذب الكثيرات بالقرب منهن، حين خرج صوت إحداهن:

- لكن من كان يتوقع أن نرى القائد الأعلى عن قرب، كانت تدور حوله الكثير من الشائعات.

- شائعات؟

- ألم تعرفن؟ يقولون أنه كان مختفياً عن الأنظار لفترة طويلة قبل أن يدخل القصر.

- ولكن أليس هذا حال أي قائد؟

- بلى، لكن خلفيته مبهمة، يقول البعض أن خلفيته دموية، كما أنه نجا من الموت.

- لا شك في ذلك، فهو قوي جداً.

- آه، ألم تري كتفيه العريضين، يجعلني أريد تدليكهما.

هتفت الفتيات بخجل:

- رباه!

- لا تبدأي!

بينما كل كلمة يقلنها تجعل نورس أشد غضباً، حاولت أن تصب غضبها على العجين، لكنها كادت تفقد أعصابها فهمت منسحبة، وتوجهت بسرعة نحو الممر المؤدي إلى غرفتها، ما إن وصلت الباب، حتى ركعت على الأرض وضرب رأسها وقبضتها على الباب، وصرخت في نفسها:

"ما خطبي؟"

ثم أمسكت رأسها، وأخذت تقنع نفسها:

"ليس وكأنني أهتم، ليس وكأننا سنكون معاً"

ما إن خرجت كلماتها الأخيرة، حتى شعرت بحرقة تتوغل قلبها، وأجهشت ببكاء مرير.

...


الفصل الثامن والثلاثون

 أصوات خطوات الأقدام تتعالى في الدهليز الحجري ثم تتردد وتتلاشى مع صدى صوتها، بينما يسرع مارون خطواته في محاولة للحاق بسيده الذي خرج من الغرفة بعد الاجتماع باللوردات حول المسألة التي أوكلها له والده، وعندما اقترب، تردد صدى صوته بغضب:

- سيدي.

لم يتوقف روهان عن المسير، خطواته ثابتة ووجهه خالٍ من أي تعبير، ما إن رأى مارون ذلك حتى سحبه من قميصه وهزه:

- روهان! هل فقدت عقلك!

صرخ وهو يهزه بانفعال:

- لقد أتلفت الدليل الوحيد لمعرفة كل شيء، هل فقدت عقلك!

لكن روهان وضع يده على قبضة مارون الممسكة بقميصيه باحكام، وهمس:

- أعلم ذلك.

تراجع مارون عدة خطوات وأفلت سيده، ونظر نحوه باستنكار، عدل روهان ياقته وهمس:

- دعنا نتكلم في الداخل.

ثم هم يكمل مسيره، ووقف مارون متجمداً ينظر في أثر سيده بدهشة، ثم همس في سره:

"هل بدأت أفقد ثقتي في سيدي؟"

...

داخل غرفة روهان المكتبية، يجلس روهان على مكتبه يتفحص جنوده الأربعة الجالسين قبالته واحداً تلو الآخر، بينما يترقب كل واحد منهم سيده الذي لا يزال وجهه فارغاً خالٍ من أي شعور.

- أعلم أنكم مستاؤون!

علق بهدوء:

- لكننا بحاجة لثقة الحاكم.

نظر كل واحد نحو الآخر بدهشة، عيونهم تشجع الآخر على السؤال ولكن لا أحد منهم يملك الجرأة لفعل ذلك، لكن روهان فهم ما يتحاورون بينهم، فعقد يديه وتراخى بظهره على ظهر الكرسي وقال بثقة:

- الحاكم أعرب لي عن مدى أهمية الحفاظ على سر الإكسير وهو بالتالي يعرف من الفاعل.

- ماذا؟

هتفوا معاً، فوضح لهم روهان:

- ألم تلاحظوا ذلك؟

نظروا نحو بعضهم مجدداً، ثم خاطبه آندي وهو يحك رأسه بتوتر:

- اعذر جهلنا سمو الأمير.

تنهد روهان بخيبة أمل، ثم قال:

- لم يكن الحاكم مهتماً بماهية الفاعل، هو فقط يريد التخلص منه ... بما معنى أنه يعرفه مسبقاً، وقد أرسلنا دون أي توضيحات فقط لنتخلص من الدليل الذي يهدد سر صاحب الجلالة.

هز مارون رأسه مفكراً، وقال:

- مما يعني أننا مجرد أدوات لحماية سر سمو الجلالة.

- بالضبط.

علق روهان، وأضاف:

- وهو اختبار لنا أيضاً!

حدق الجنود الأربعة بروهان بدهشة، فعاد روهان ليسند جسده على المكتب، أشعت عيناه بوميض ماكر، بينما خرج صوته بنبرة غامضة مخيفة:

- أي كان على استعداد للتضحية بنا.

تجمد الهواء في الغرفة، وتجمدت معها قلوبهم، جرى صمت خانق وتقشعرت أبدانهم، شعر كل واحد منهم بلسعة باردة تسري في عروقه، وابتلع آندي رمقه على مضض، سارت الدقائق ببطئ وأصبح صوت عقرب الساعات مركز الغرفة، حتى خرج صوت لان متردداً:

- ولكن ... ولكن ... أليس سيدي ... 

قاطعه روهان بإشارة بيده وقال بلامبالاة:

- أنا أيضاً مجرد أداة للصاحب الجلالة.

جحظت عينا لان وهمس:

- هذا .. مستحيل!

فنهض روهان، غمرته أشعة الشمس من النافذة الخلفية فجعلته أسوداً كالظلام الحالك، ثم بهت النور خلفه وعادت الألوان بالتدريج ليظهر أخيراً وجهه الجاد المعتاد وقال بنبرته الحازمة المعتادة:

- لذا أطلب منكم الحذر، يمكنكم الانصراف.

نهضوا وانحنى كلاً من تيم وآندي ولان، وخرجوا واحداً تلو الآخر، وبعد أن أغلق الباب عاد مارون ينظر نحو سيده الذي سرعان ما أصبح منهمكاً بقراءة التقارير التي على مكتبه، ثم قال:

- سيدي!

- مارون، دعك من ذلك!

- لكن سيدي ...

فترك التقرير الذي بيده ونظر روهان نحوه ثم قال:

- أنا أفهمك، لم تكن تعلم بالامر، ولم أخبرك حتى لا يشك صاحب الجلالة بنا.

ترقرت عينا مارون بالدموع، ما جعل روهان ينظر نحوه بدهشة، وعندما لاحظ بأن دموعه تخونه أخذ يمسحها بذراعه، خرج صوته محشرجاً مختنقاً:

- أنا آسف ... أنا آسف!

ارتسمت على وجه روهان ابتسامة لطيفة، نهض وتقدم نحوه ثم ربت على كتفه مواسياً:

- لا عليك!

لكن مارون استمر بالاعتذار.

- أنا آسف ... أنا آسف!

...


الفصل السابع والثلاثون

 عودة إلى الوراء


في غرفة المعيشة، تجلس الطفلة الصغيرة على الأريكة الكبيرة، بينما انعكاس أشعة الشمس يشع في أرجاء الغرفة بكل قوته، ما جعل المكان كأنه رصع بالذهب، صفاء السماء وهدوء المكان يجعل الجو شاعرياً ومناسباً للقراءة بهدوء. حتى أتى الصوت من الباب، خافتاً ولكنه مسموع بشكل واضح.

- كم مرة علي إخبارك بذلك، الكونتيسة لن تنتظر طويلاً.

- لكنني بحاجة لبعض الوقت، فهي لا تزال صغيرة، ألم يكن الموعد خلال سنها الخامس عشر.

- كان كذلك، ولكن الظروف لا تسير دائماً كما هو مخطط لها.

- روزي!

- هه! عليكِ باتخاذ القرار بأسرع وقت! هل فهمتي؟!

ثم جرى صمت لبعض الوقت، وفتح الباب بهدوء، كانت لحظات قليلة رأت خلالها الطفلة وجه أمها المتعب، ثم عادت لترسم البهجة على ملامحها الرقيقة، وهتفت:

- آه، ما الذي تقرأه صغيرتي؟

نظرت الطفلة بعيناها اللوزيتين البلهاوتين نحوه والدتها، خط شفتيها الصغير يظهر الجدية في نظراتها، ما جعل السيدة تنظر نحوها بدهشة وتساؤل.

- ماما ..

خرج صوتها الطفولي بحزم:

- هل الخالة روزي غاضبة؟

أخفضت السيدة وجهها بحزن، وزمت شفتيها بقلق، ثم رفعت رأسها، عيناها تلمعان من الدموع التي تحبسها، ثم خرج صوتها جاداً:

- عزيزتي نورس

نظرت الطفلة نحو والدتها التي رأتها بتلك الملامح لأول مرة، ثم جلست بجانبها وربتت على رأسها بحنان، ثم قالت لها:

- لا تقلقي يا عزيزتي، فماما ستبقى بجانبك مهما كان الأمر.

...

على المنصة الدائرية الحجرية المحاطة بسور من الجماجم الملطخة بسائل جنيات الهيكب، وقفت سيدة جميلة في أواسط الأربعين، تقف خلفها مجموعة صغيرة مكونة من خمسة إلى ستة من جنيات الهيكب اللزجة، والتي يستمر جسدها بالسيلان بذلك السائل الأسود اللزج.

- أنتِ!

صرخ مارون:

- ألستِ الكونت روزي لافرتين.

- إذاً فأنت تعرفني!

ثم أشارت بيدها فبدأت الجنيات خلفها تبصق كرات ضخمة من السائل اللزج نحوهم، ليتحركوا بسرعة ويصدوها واحدة تلو الأخرى، ولكنها أصبحت تنهال عليهم بسرعة أكبر، فصرخ روهان:

- انسحاب!

نظر الجميع نحوه بدهشة، لكنه اتجه نحو المدخل ووجدوا أنفسهم يتبعونه، تنهال عليهم الكرات اللزجة الضخمة، يتجنبوها أحياناً، ويضربها مارون أحياناً أخرى، إلا أن سرعتهم في الهرب أعطتهم بعض الوقت ليبتعدوا عن تلك الجنيات التي فرض عليها أن تتحرك ببطئ بسبب جسدها اللزج، ما أعطاهم الفرصة ليجدوا جداراً من البيوت المحطمة ويختبئوا فيه.

أخذوا يلتقطون أنفاسهم، ولكن روهان بقي مستقيظاً لأي حركة مباغتة.

- رباه!

تذمر أحدهم:

- من كان يتصور أنها الكونت روزي.

- ما الذي يجري حقاً؟

سأل آخر يخاطب مارون:

- هل ستكون الكونت ضدنا بسبب الاكسير أيضاً؟

بدا مارون شارداً، وصمت لبعض الوقت، ثم قال بنبرة حزينة:

- لا أعلم حقاً يا تيم.

شهق ثلاثتهم بفزع، وهتف تيم:

- مارون لا يعلم!

فعلق الأول:

- أوليس هذا السبب من إرسالنا في هذه المهمة.

- بلى ... ولكن ...

ثم وجهوا نظرهم نحو روهان الذي كان مركزاً في المراقبة، وحين شعر بنظراتهم نحوه، نظر نحوهم لوهلة، ثم خاطبهم:

- مارون، تيم، آندي، لان ...

جرى صمت مثير للقلق، وهمس:

- أعتمد عليكم!

وقبل أن ينطق أحدهم بجملة أخرى، اخترقت قبضة لزجة الجدار وفرقتهم عن بعضهم، لتظهر السيدة روزي تحيطها هالة سوداء تتصاعد كالدخان، عيناها حادتان تعلوها تلك النظرة الممزوجة بالاشمئزاز والاستهزاء، مدت يدها، فانهالت الجنيات بالتمدد والتضخم، وإخراج أذرع ضخمة من أجسادها ومهاجمتهم، صد تلك الهجمات ليس بتلك الصعوبة، فحركات الجنيات بطيئة ويمكن قراءتها بسهولة، ولكن إلى متى يمكنهم الصمود هكذا، إلا جانب أن تلك الهالة التي تحيط السيدة روزي لا تبشر بخير على الإطلاق، فالهجمات تصبح أشد قوة وتترك أثار على الأرض.

- أنت!

صرخ روهان، ثم صد القبضة الموجهة نحوه وشق طريقه بسرعة عبر الأذرع المنهالة عليه، وفي لحظات أصبح السيف أمام وجه السيدة، ولكن قبل أن يضرب ضربته هاجمته ذراع مخاطية وقذفته بعيداً ليصطدم بأحد جدران الأطلال المحطمة، فصرخوا:

- سيدي!

ابتعد مارون عن الذراع التي تهاجمه، وهم مسرعاً نحو سيده الذي سال الدم من فمه، وبدا أنه فقد الوعي، إلا أن القبضات انهالت عليه تمنعه من الاقتراب، فصرخ:

- سيــدي!

كاد يفقد أعصابه مجدداً، وقبض على يده بغضب، الهواء حوله أصبح يتمحور حوله والتراب عند أقدامه بدأ يتحرك على شكل دوامات صغيرة، إلا أن الرجل الأصغر من بينهم صرخ:

- مارون!

أتت القبضة باتجاه، إلا أنه صدها بيده ونظر ثلاثتهم نحوه بدهشة، حتى أن السيدة روزي نظرت نحوه بدهشة، وما أثار فزعهم ظهور التشققات على قبضة الجنية المخاطية المجمدة، ولكن صوت روهان الضعيف أيقظه:

- تباً لك!

وحاول النهوض مجدداً:

- هل .. تظن .. أني سأهزم بسهولة!

أبرقت عينا الجنود الثلاثة، وعادت ملامح مارون إلا طبيعتها ثم نظر حوله فوجد قبضة الجنية أمامه، فسرعان ما هم عليها بسيفه، وتوجه نحو سيده.

- سيدي، هل أنت بخير؟

- تبا لك!

ولكن صرخة مدوية جمدتهم فجأة، وجعلتهم ينظرون نحو مصدر الصوت بسرعة، حيث اخترق الصوت آذانهم فلم يستطيعوا تحمله وغطوا آذانهم بأيديهم، ليجدوا السيدة روزي وعيناها ستنفجران من شدة انفاخها وهي تصرخ وتمسك رأسها بحدة، ثم توقفت وعادت تصرخ مجدداً، بدا الجميع متفاجأً من المشهد الغير مألوف، ووقفوا صامتين يشاهدون بدهشة، حتى توقفت وصرخت وهي تشير بيدها نحو روهان ومارون، فاتجهت ثلاث جنيات نحوهم، وانهالت عليهم الأذرع المخاطية واحدة تلو الأخرى، لم يستطع مارون صد هذا الكم الهائل من الهجمات، كما أن روهان ما زال يحاول النهوض مجدداً، فغطتهم تلك القبضات بالكامل بينما انشغل الجنود الآخرين بالهجمات الموجهة لهم إلا أنهم صرخوا بذعر:

- سيدي!

حاول تيم التسلل من بين هجمات الجنيات المتواصلة، ولكنهم يصبحون أشد شراسة حين حاول الاقتراب، لوهلة وقف ثلاثتهم مذعورين، هل ابتلعتهم تلك الجنيات حقاً؟ إلا أن المادة الهلامية بدأت بالذوبان، وسرعان ما خرج نورٌ ساطع من بين الثقوب ثم أصبح النور أشد سطوعاً حتى أنهم بالكاد استطاعوا النظر نحوه، ثم خرج النور كبلورة متفجرة مزقت الجنيات الثلاثة وتلاشت في الهواء، وما إن اختفى النور اختفت معها القبضات المخاطية الأخرى، وأصبحت الجنيات المتبقية مشوهة إثر تمزق هجومها، وقف الجميع منبهراً، بينما يقف روهان رغم إصابته ساتلاً سيفه الذي يخرج من البخار، كشرت السيدة عن أسنانها، ثم صرخت:

- اقتلوه!

وقبل أن تتحرك الجنيات، هم عليهم مسرعاً وبسيفه المضيء شقهم نصفين وتلاشت أجسادهم، ثم وجه سيفه نحوها، ينظر نحوها نظرة سوداء مرعبة، تعكس الغضب الذي في داخله، عضت على أسنانها وأخذت تقبض يدها بقوة، ثم ازدادت سرعة الدخان في هالتها السوداء وأصبحت أشد، إلا أن سطوع السيف في وجهها الذي لمس حنجرتها أوقفها، وجعلها تعود إلى إنسانيتها، سقطت أرضاً، واستمر روهان بتوجيه السيف ينظر نحوها بنظرات غاضبة، ثم قال:

- هل لديكِ كلمات أخيرة؟

- أرجوك!

توسلت باستماتة:

- لا تقتلني!

اشمأزت عيناه من كلماتها، واكفهر وجهه، ثم سأل باستهزاء:

- وهل صفحت عن هؤلاء الأبرياء الذين قتلتهم؟

توسعت عيناها بذعر، ثم جثى على ركبته واقترب منها بسيفه، بينما حاولت الزحف بعيداً عنه، ثم سأل:

- ما الذي فعلته لتخالفي الاتفاق؟

تلألأت عيناها واتسعت عيناها أكثر، وزمت شفيتها المرتجفتين في محاولة لمنع نفسها من الكلام، حدجها ثم نهض وقال:

- لا بأس، فما إن أتخلص منكِ حتى تعود الأمور إلى صوابها.

- لا!!!

وقبل أن تنطق بكلمة ضرب سيفه بسرعة وطار رأسها بعيداً وتدفق الدم من عنقها كمياه الينابيع الساخنة. جرى صمت مخيف، وبدأ الوقت بالمماطلة، ابتلع أربعتهم ريقهم بصعوبة، ونظر ثلاثتهم نحو بعضهم بتوتر ثم نظروا نحو مارون الذي بدا مصدوماً هو الآخر، حين حاول أحدهم أن يمتلك الشجاعة ليتكلم:

- سيـ ...

لكنه قاطعه باستدارته، أستل سيفه لينظفه من الدماء، ثم أعاده إلى غمده، لم ينظر نحوهم وهم يسير نحو الأمام، خرج صوته غائراً منخفضاً:

- انتهت مهمتنا، لنعود الآن!

وتابع سيره بينما تابعه الجميع بعيونه، ثم نظروا نحو الجثة التي بدأت بالتحلل والتلاشي، أعادوا سيوفهم إلى غمدها وساروا مسرعين ليواكبوا خطوات سيدهم.

...


الفصل السادس والثلاثون

 قبل بضع سنوات، كانت هناك العديد من الممالك الصغيرة ... الكثير منها! ما جعل الاستقرار والتوافق بينهم من الأمر شبه مستحيل، توغلت خلال تلك السنين العديد من الحروب ولم ترى الممالك يوماً واحداً من السلام، لكن معاناتها توقفت عندما بدأت تتضمحل شيئاً فشيئاً وتشكل الممالك الثلاثة الأقوى في العالم، رامون، إيلاف، ستاديا. بينما كانت كل منها تبتلع الممالك الصغيرة من طرف، تشتعل الحروب بين الممالك الأخرى من طرف آخر.

أخذت رامون الطرف الشرقي، وأخذت إيلاف الطرف الغربي، بينما أخذت ستاديا الطرف الشمالي، وبقيت مملكة واحدة في المنتصف، صامدةً بينهم، مملكة الحاكم!

استخدمت الممالك الثلاث أبشع الطرق لتستولي على الممالك بأسرها، ونشرت سم الزرنيخ فيها، مما أدى إلى نشر الأوبئة وإضعاف الجيوش، وجعل المقاومة مستحيلة. إلا أن مملكة واحدة صمدت في هذا الجحيم ... مملكة الحاكم! 

استغلت المملكة الوقت الذي انشغلت فيه الممالك الثلاثة بقتال الممالك الصغيرة لدراسة السم، وأعطى الحاكم جائزة باهظة لمن يخرج بالترياق، عملت خلال ذلك الوقت جميع العائلات النبيلة في المملكة بكل ما لديها من جهد، حتى خرجت عائلة لافرتين بالإكسير السحري، الإكسير الذي يمنح قوة عظيمة تجعل المرء بألف رجل، وما إن أتت اللحظة الحاسمة للهجوم تدمرت جيوش الممالك الثلاثة ولم يستطيعوا المجابهة، وهكذا تراجعوا يجرون معهم ذيل الهزيمة.

إلا أن الأمور لا تسير دوماً كما هو مخطط له، فذلك الترياق أدى بنتائج عكسية وأضعف من قوة الجنود الجسدية، وبالتالي أصبح استخدامه أمراً محتوماً، وهكذا وقعت مملكة الحاكم ضحيةً للإكسير السحري.

صمود المملكة أصبح على كل لسان وتحت الأنظار، جعلها محور الاستهداف، وأشعلت في الممالك الثلاثة نيران الحنق والسخط، فأصبحوا يتنافسون فيما بينهم بكشف ما تخفيه تلك المملكة المتعجرفة.

ولأن مملكة الحاكم أصبحت مسرحاً للغزو في أي وقت، كان على عائلة لافرتين أن تجد حلاً لتحسين الإكسير وإيقاف استنزافه لقوة الجنود، وبذلك تعاقدت السيدة الكبرى لعائلة لافرتين مع جنيات الهيكب، دفعت ثمن ذلك التعاقد حنجرتها، ما أفقدها صوتها، ونص التعاقد على أن يطبق هذا الشرط على كل وريثة ستحمل معها عبء هذا السر.

لا أحد يعرف مكونات هذا الإكسير عدا تلك الفتاة التي اختيرت من قبل السيدة الكبرى، تتعلم على يدها صنع الترياق وتحمله معها إلى قبرها.

...

الغبار أصبح كتلاً ثقيلة، جعلت من الرؤية شبه مستحيلة، لكن صهيل الأحصنة وخطواتها لا زال مستمراً، يشقون طريقهم بمهارة عالية، حتى وصلت أقدامهم طريقاً معبداً بالحجارة، فتوقفوا وترجلوا واحداً تلو الآخر، وتركوا الخيول تستريح، وجلسوا بخمستهم يرشفون الماء من قواريرهم المعدة.

جلس روهان على إحدى الصخور، وأخذ يتأمل الطريق المعبد، الأشجار ترسم على جهتيه الظلال، وضوء الشمس الحارق يصبح ناعماً عندما يتخللها. مكان مثاليُ لجنيات الهيكب! حدق مفكراً، ثم فرد خريطته التي علمت عليها أماكن تواجد الجنيات، وأخذ يفكر، هذا المكان التاسع الذي يملك تلك المواصفات، ربما جنيات الهيكب ليست من النوع المحب للبهجة!

تقدم مارون من سيده الجالس منزوياً، وقدم له قارورة الماء، تنبه روهان له بسرعة كما لو انه يترقب أحدهم، فحك مارون رأسه وقال:

- سيدي، ألست ترهق نفسك كثيراً!

خطف قارورة الماء، بدا غاضباً، لكنه قال بهدوء:

- علينا أن نكون مستعدين لأي ظرف، ألم تروا صعوبة التعامل مع تلك المخلوقات بعد!

تجمد الثلاثة الآخرين في أماكنهم، وكأنه ذكرهم بأمر لا يريدون تذكره، فقال مارون في محاولة لتلطيف الجو:

- سيدي، أنظر ... ها قد ذكرتهم، كان من الجيد أنهم نسوا التجربة الأخيرة لهم.

رمى روهان القارورة باتجاه مارون الذي سرعان ما التقطها ونظر نحو سيده الذي نهض في دهشة، قال روهان بلامبالاة:

- لا يهم، لنتابع الآن.

وهم يمتطي حصانه، بينما نظر الرجال فيما بينهم باستغراب، حتى أتى صوت روهان غاضباً:

- أتريدون مني الإنتظار؟

كان ذلك أشبه بتحذير، فلملم الجميع أغراضه على عجل وامتطوا أحصنتهم بسرعة البرق، ما إن لحقوا بخطوات سيدهم حتى نظروا فيم بينهم متسائلين، لم يعرفوا قائدهم الغاضب فارغ الصبر ذا، دائماً ما كان قائدهم هادئاً وروياً، ما بال هذه العجلة؟ هل بأخذهم استراحة صغيرة ستفسد مهمتهم؟

مارون يفهم تماماً تساؤلات الجنود، ولكنه أيضاً يفهم سيده، فقال محاولاً التخفيف عنهم:

- ربما يريد سموه التعجيل في ذلك حتى لا يطغى على تدريبكم من أجل الحرب المحتملة!

طرق أحدهم يده، وهتف:

- سموه يبقى سموه، أليس كذلك؟

حكوا رؤسهم بارتباك، بالتأكيد! من يظن أن هناك أمراً آخر يشغله، فهم على وشك الاشتباك مع جيش جاكوب، لذا لا بد من حل الأمور الداخليه في أسرع وقت ممكن!

...

كانت خطوات الخيول منتظمة على الطريق المعبد حتى اختفت، توقفت الخيول وصدحت أصوات الغربان، توافدوا في جماعات على أطلال من المفترض أنها لبئر حجري قديم.

- ما ... الذي يجري؟!

علق أحدهم في صدمة، بينما تحلق مجموعة غربان في حلقات فوق أطلال بيوت مدمرة، لولا تلك الستائر السوداء الممزقة المتناثرة لما عرفوا إن كانت مأهولةً حتماً. تقدم حصان روهان، وأخذ يسر نحو الأطلال، ثم تجمد مكانه، شعر أتباعه بالذعر لردة فعله فهموا نحوه مسرعين، ليتجمدوا على إثره.

المكان محطم بالكامل، بعض الأثاث لا يزال صالحاً، وبعض المعدات لا تزال موجودة، هل دمرت البيوت والناس في الداخل؟ لكن أين البشر؟ لم يكن هناك أثر لبشري واحد ولا حتى رائحة دماء أو جثث، ما الذي يجري حقاً؟

تابعوا مسيرهم ببطئ، يمسحون البيوت بأعينهم، لعلهم يجدون ناجٍ وحيد، إلا أن الصدمة تضاعفت حين وصلوا عن حائطاً مسدود، صهلت أحصنتهم بفزع، حاول كل منهم السيطرة على حصانه، وما إن هدؤوا حتى لسعتهم القشعريرة، وتجمدت أجسادهم، عينا كل واحد منهم ترتجف تكاد تنفجر من هول الصدمة ...

جماجم ... كل ما يرونه أمامهم جماجم مصنفة بانتظام تشكل سوراً كما لو أنه سورً لحديقة خارجية لمنزل صغير، لكنه لم يبنى من الصخور، تحيط صخرة دائرية مسطحة يمكن التنبأ من تحطمها أنها كانت محور هذه الجريمة البشعة.

- لا يمكن !!

هتف أحدهم بصدمة:

- ... هل ... تأخر ... نا؟

- لكن من المفترض أن ننهي مهمتنا فور وصولنا لهذه القرية، أليس كذلك؟

قبض روهان على لجامه فور سماعه كلمات أتباعه، وعض على أسنانه، هل حقاً يعني ذلك الفشل؟ 

- أن يصل الهيكب إلى هذه المرحلة من التخريب، هل فقدوا عقولهم؟

خرج صوت مارون غامضاً، بدا أن غضبه يستولي عليه، وبدأت عيناه تومض بلونها الأحمر، حتى أيقظه روهان وصرخ:

- مارون!

أغمض مارون عينيه وعض على أسنانه وبصق بحنق:

- اللعنة!

ترجل روهان من على ظهر الحصان، ثم ربطه بالقرب من أطلال البيوت المدمرة حتى يبعد ناظريه عن المجزرة المروعة ويبقى هادئاً، ثم توجه نحو الحجر الدائري وجثى بجانبه، حينها ترجل أتباعه وفعلوا المثل، ثم اقتربوا منه، حين نهض وقال وهو ينظر إلى يده التي لمست الحجر الدائري:

- لا يبدو أن للهيكب يد في ذلك!

نظروا نحوه بدهشة، وهتفوا:

- ماذا؟

فأشار بيده نحو الحجر الدائري، وقال:

- تلك القوة ليست من صنيعهم.

نظروا نحوا السطح الحجري بحيرة، السطح غائر ويشكل حلقات متغايرة بالحجم كما الحلقات التي تصنعها الحجارة المقذوفة على سطح الماء، لكن الهيكب يستخدم سائلاً لزجاً يشبه المخاط، ألا يجب أن يترك ولو دليلاً على ذلك؟

سار مارون نحو السور المصنوع من الجماجم، ثم صرخ بفزع، عندما نظر الجميع نحوه بفزع بما فيهم روهان، عندما رآه الأخير متجمداً لا يقوى على الحراك اتجه نحوه بسرعة، ليرى سائلاً أسود لزجاً يخرج من بين الفراغات التي تفصل الجماجم فيما بينها.

" هذا مستحيل!"

صرخ في نفسه بذعر:

"تبدو كأنها مؤامرة!"

أيقظ شروده صوت أتباعه الثلاثة يتقدمون نحوهما، فصرخ أحدهم:

- بحق الله! ما الذي يجري!

لم يطل انتظارهم كثيراً حتى شعروا بحركة خلفهم، أستلوا أسلحتهم بسرعة فور التفاتهم، لكنهم تجمدوا مكانهم فور رؤيتها ...

...


الفصل الخامس والثلاثون

 في القاعة الملكية، يقف القائد ليون في المنصف أمام منصة الحاكم، بنشر أخبار إنقاذ الفتاة وحل سوء التفاهم المزعوم بهويتها خفف من غضب الشعب عامة، إلا أنه سكنهم لبعض الوقت، فالبعض لا يستطيع تصديق ذلك وبدا متشككاً، لذلك كان القبض على سيراف من الأمور التي ستسهل عملية الاقناع، ولكن ...

- إعتذاراتي صاحب الجلالة، عندما وصلنا السفينة كان سيراف قد اختفى حتماً!

شد الحاكم على قبضة يده، وأغمض عينيه في محاولة لتمالك نفسه مذكراً نفسه أن أهم شيء الآن هو سلامة الإكسير، يمكن إقناع الشعب بتغطية من عمل خيري آخر، ثم تنفس بعمق، وقال:

- لن تنتهي مهمتك أيها القائد ليون حتى تقبض عليه.

رفع ليون رأسه بدهشة، من حسن حظه أن يعفو الملك عنه بتلك السهولة، بدا أن الآنسة لافرتين تعود بفائدة عليه في بعض الأحيان، لكن مزاج الحاكم في أسوأ أحواله، لذا ما إن انتهى الاجتماع حتى طلب من الجميع الرحيل.

...

في غرفة مكتب روهان، يجلس هناك منغمسٌ في العمل، فمنذ أن رقض في الفراش بسبب إصاباته، أعمال ورقية كثيرة تراكمت عليه، بدا في حالة تركيز شديد، بينما يساعده مارون في ترتيب التقارير، حين فتح الباب فجأة، نظر روهان ومارون نحو الباب بدهشة، ولكنهما ذهلا أكثر عندما وجدا صاحب الجلالة شخصياً خلف اللورد لين يدخلان المكان.

وقف روهان على عجل، وقدم تحيته لصاحب الجلالة، قدم مارون تحيته بهدوء، ليسأل روهان:

- ما الذي يستدعي أن يتحرك صاحب الجلالة شخصياً؟

ابتسم الحاكم ابتسامة باردة، وقال بهدوء:

- يبدو أنك تعافيت.

انحنى روهان باحترام مجدداً وقال برصانة:

- هذا بفضل أطباء القصر الذين عينهم صاحب الجلالة.

- يريحني ذلك!

شعر مارون بألم في معدته، شعر بأن الجو لا يطاق بين الحاكم وروهان، حتى تحرك الحاكم عدة خطوات هادئة متوجهاً نحو النافذة المجاورة خلف المكتب.

- يبدو أن هناك قرى تتعرض لهجوم شرير موخراً.

كان الحاكم يحدق في الخارج، لا يبدو على وجهه أي شعور، بينما تجمد روهان مكانه كطفل يحاول إخفاء عمل سيء قام به، اردف الحاكم:

- ألست تتصرف على هواك كثيراً أيها القائد روهان؟!

جحظت عينا مارون على واسعهما، وسرت قشعريرة قارصة في جسد روهان، حاول ضبط أعصابه، ثم ابتسم وقال بهدوء:

- لمً يعتقد صاحب الجلالة ذلك؟

فنظر الحاكم نحوه وابتسم بهدوء، ثم أوضح:

- لأنك تبدو كما لو يعلم تماماً عما أتحدث عنه!

عينا روهان تحدق في الحاكم الذي يحدق به في ثقة:

- لا تخبرني أنك تورطت بذلك أيضاً!

أشاح روهان نظره، ألقى الحاكم نظرة خاطفة عليه ثم قال:

- هل تتوق حقاً لفعل ذلك؟

نظر روهان نحو الحاكم بدهشة، حتماً لم يستطع أن يخفي صدمته المحتمة، عيناه كادتا تنفجران من انفراجهما، فابتسم الحاكم لردة فعله بتلقائية، حين سأل:

- أتسألني ؟

- في المرة الماضية، قابلت الآموري وانتهى بك طريح الفراش، هذه المرة ستواجه جنيات الهيكب، هل تريد مني تكرار ذلك؟

- لا تبدو شخصاً يقلق على أتباعه!

حافظ الحاكم على ابتسامته، بدا أن تخرج تلك الكلمات من ابنه قاسية حقاً، كما أن الجو بينهما أصبح متوتراً لدرجة أن روهان لم يعد يستطيع التحمل من ألم معدته، عاد الحاكم عدة خطوات للخلف حتى أصبح في مواجهة لمكتب روهان، ثم قال:

- الإكسير أملنا الوحيد للنجاة من هجمات الممالك الثلاثة، كون الجيش معرض لذلك السم المزمن الذي استخدمته تلك الممالك في الحرب السابقة للسيطرة على الممالك الأخرى منذ زمن ليس ببعيد، فهو في أمس الحاجة له، لذلك علي حمايته مهما كلف الأمر.

- وما علاقة الجنيات بذلك؟

تردد الحاكم، بدا أن سؤاله يضعه في مأزق كبير، اللورد ليون هادئ ولكنه خائف من الداخل، حين قال الحاكم أخيراً:

- منذ الحرب الماضية للمالك الثلاثة، تعاقدت السيدة الكبرى لعائلة لافرتين مع الجنيات من أجل مساعدتها في حل قضية السم المزمن، ويبدو أن أحد أفرادها نقد العهد ما جعلها غاضبة وتستهدف القرى التي تهتم بزراعة النباتات الطبية.

رسمت على ملامح اللورد لين الدهشة والخوف، التمس روهان توتره، وقال:

- أن يجيب صاحب الجلالة على سؤالي بهذه الإفاضة، هل هذا حقيقي؟

لكنه تجمد مكانه عندما رأى علامات الجدية تنحت وجه الحاكم، تغيرت نبرته الهادئة لأشد حزماً:

- لأنني أريدك أن تفهم تقدير الوضع.

جرى صمت متوتر، شعر روهان بالاختناق، حتى خرج صوت الحاكم بهدوءه الاعتيادي:

- أتمنى أن تنهي هذا الأمر بسرية تامة، فهذا الملك يعتمد عليك!

ثم هم منصرفاً تاركاً روهان في وجومه، هل امتدحه الحاكم قبل قليل حقاً؟

بعد ابتعاد اللورد ليون والحاكم عن غرفة روهان، سأل اللورد:

- صاحب الجلالة، هل صاحب الجلالة متأكد من قراره؟

رفع الملك رأسه ونظر في الأفق:

- أرى أنه من المقدر عليه في النهاية، مهما حاولت ابعاده.

- لكنه سيواجهه، هل سيكون على ما يرام؟

- لا أدري، أرجو أن يكون نقطة تحول جيدة!

توقف اللورد لين لوهلة من الصدمة، برؤية ظهر الحاكم، هو لا يذكر هذا الرجل! هل حقاً تغير قليلاً؟!

...

الظلام دامس، لكنها تسمع صوت حركة خافتة، ثم ..

- نورس ... هل أنت مستيقظة؟!

صوت كريستينا جعلها تشعر بالدفئ، أخذ الظلام يتلاشى شيئاً فشيئاً ثم تفتحت ثقوب من الضوء شيئاً فشيئاً حتى أصبحت بيضاء تماماً، ثم أخذت بلورات ملونة مضيئة تلمع هنا وهناك تتحرك كقطرات الندى.

- نورس!

نهضت، ثم أخذت تفرك عينيها، لترى كريستينا بجانبها تحمل قطعة قماش مبللة، نظرت لقطعة القماش مطولاً، ثم همست في سرها:

- هل كنت مصابة بالحمى؟!

- نورس

أتى صوت كريستينا مباغةً، مرحاً وقلقاً في الوقت نفسه، ثم همت نحوها تعانقها بحرارة، شعرت بجسدها يعتصر بقوة تكاد تختنق، ما إن شعرت كريستينا بجسد نورس الضعيف حتى ابتعدت بسرعة وأخذت نورس تشهق بصعوبة.

- أنا آسفة! تحمست كثيراً ... هل ... 

حاولت الاقتراب منها:

- هل أنت بخير؟

نظرت نورس نحو كريستينا، وجهها القلق يجعلها تبدو أكثر جمالاً، رسمت على وجهها ابتسامة ضعيفة بالكاد ظهرت، أرادت أن تخبرها بأنها بخير، حينها نهضت كريستينا فجأة، وهتفت:

- هاه! نسيت شيئاً مهماً!

ثم همت نحو المنتضدة القريبة من السرير، وحملت في يدها كوباً، عندما أمسكت نورس الكوب اشتمت رائحة عطرة، جعلت جسدها يسترخي.

- سيشعرك شراب البابونج بالراحة.

حاولت نورس أن توسع ابتسامتها قليلاً لكن عضلات وجهها لا تزال منهكة، ثم أخذت تشرب بهدوء.

"آآآه، يا له من شعورٍ رائع!!"

- بالمناسبة ..

سألت كريستينا بفضول:

- هل تتذكرين ما حصل؟

نظرت نورس نحوها من خلال الكوب، فأخذت كريستينا تفكر:

- أعني ... فالقائد الأعلى أتى بك من اللامكان، وكنت في حالة يرثى لها.

ثم هتفت:

- آه تذكرت!

ثم همت تبحث حولها، لتخرج قلادة، ما إن رأتها نورس حتى ارتخت يديها وفتحت عيناها على مصرعيها بذهول، بينما تتلألأ اللؤلؤة وهي تتأرج بين يديها.

- أخبرني أنك أوقعتها ...

بدت نظرتها بلهاء وهي تحدق بالقلادة، كانت تنظر بوجه يقول: "إيه! أحقاً هذا؟" أمالت كريستينا وجهها متسائلة، وسرعان ما وضعت نورس الكوب جانباً ثم مدت يدها لتضع كريستينا القلادة بحرض على كلا كفيها.

- لم أكن أعلم أن لديكِ مثل تلك الأشياء.

نظرت نورس نحوها، لا تزال تلك النظرة الغبية على وجهها، ضحكت كريستينا بخفة، وقالت:

- أعني أنكِ لست من النوع الذي يحتفظ بمثل هذه الأشياء ... هل هي تذكار مهم؟

أخفضت نورس رأسها بحرج، وتحاشت نظرات كريستينا، التي أخذت تحاول لقاء عينيها، ثم ابتسمت بمكر وقالت:

- يبدو أن القائد الأعلى مهتم بك!

هاجمتها نورس بنظرات غاضبة، فضحكت كريستينا بمرح وقالت:

- أنا سعيدة لأجلك!

رؤية وجه كريستينا السعيد لم تستطع نورس سوا أن تبتسم ابتسامة حزينة، عندها طرق الباب، وسرعان ما فتح لدخل نتالي وكاثرين، ما إن رأوا نورس جالسة على السرير حتى شهقن وقفزن نحوها.

- نورس! أنا سعيدة 

- استيقظتِ أخيراً

- كان الجميع قلق عليكِ

دخلت جولييت الغرفة حين رأت وجوههم تعتصر وجه نورس، فارتعدت بذعر وصرخت:

- أنتمـــا ! ما الذي ... تفعلانه!

همت نتالي نحوها وهي تفتح ذراعيها:

- جولـــي! أخيراً أتيتِ!

اقتربت منها لتهاجمها بعناق ولكنها تجنبتها بسرعة، فأصبح مظهر نتالي مضحكاً وهي تحاول ضم الفراغ.

- أنتِ!

صرخت جولييت باشمئزاز، وجهها أزرق من الذعر:

- ما الذي تفعليه؟

- اعذريها!

علقت كريستينا:

- هي سعيدة فقط!

- ها!

تذمرت جولييت، لكن صوتاً خافتاً مرتجفاً خرج فجأة، فنظر الجميع نحو المصدر بدهشة، ليجدوا أن نورس تمسح دموعها من الضحك، همت عليها كاثرين وصرخت بأنثوية عفوية:

- ماذا؟ أنتِ أيضاً يمكنكِ الضحك!

ابتسمت الفتيات بمرح، وجود نورس معهن الآن بأمان حقاً يثلج صدورهن.

...


الفصل الرابع والثلاثون

 عند وصولهم النزل، رحبت بهد رئيسة النزل بحرارة، ثم سألت:

- هل هناك أي تقدم بشأن البيلسان المقدس سيدي؟

نظر روهان نحوها بدهشة، ثم قالت:

- أشعر كسيدة لهذا النزل بالمسؤولية كوني ورطتكم بهذا الأمر، وأود أن أقدم المساعدة الممكنة.

- شكراً لكرمك سيدتي!

خاطبها روهان بلباقة:

- لكنني لا أستطيع ترك الأمر كونه من واجباتي.

- شكراً لك سيدي، نحن محظوظون لوجودك هنا.

انحنت وقدمت احترامها، كاد روهان يلتفت حتى فاجأه امساك نورس لقميصه، نظر نحوها بدهشة أخذت تنكمش على نفسها خلفه، كاد يفتح فاه عندما رأى عيناها تحدقان بذعر شديد، سأل:

- ما خطبكِ فجأة؟

دفعت به باتجاه الممر الذي عبرت خلاله السيدة، ما إن نظر في أثرها حتى تجمد مكانه، السيدة تسير بشكل طبيعي تماماً، لكن في يخرج من ظلها ذيل طويل، عجز روهان عن تفسير الأمر، وقف مشدوهاً لبعض الوقت، حين أيقظته نورس مجدداً تدفعه ليتبعها، لكنه أوقفها بإشارة من يده، وهمس:

- لا، انتظري قليلاً.

لمس جانبه ليتأكد من وجود السيف معه، أخذ نفساً عميقاً، حدقت نورس نحوه بدهشة:

" هل هو خائف أيضاً؟"

ثم أشار لها بأن تتبعه، سارا بهدوء كما لو يروا شيئاً، ثم تتبعوا السيدة، الذيل في ظلها لا يزال يرقص في الأرجاء ما جعل المشهد مثير للاشمئزاز، الأمر المربك في الأمر: ألم تنتبه السيدة بعد؟ ما إن دخلت السيدة الغرفة حتى تحرك الظل بعيداً واختفى من النافذة، هرع روهان نحو النافذة وفتحها، لكنه لم يجد أثراً لأي شيء سوا الحديقة الهادئة المطلة على الشارع، احتدت عيناه، وفكر في نفسه:

"يا له من أمر مثير للاشمئزاز!"

استدار، وواجه نورس، بسرعة سحب يدها وسار بها حتى آخر الممر، وقبل أن يتحرك:

- علينا أن نبحث عن مارون، ربما الظل يلاحقه.

جحظت نورس عيناها على واسعهما، هل ربما لاحظت السيدة التي لعنت القرية بأن مارون يبحث عنها؟ لكن من تكون؟

وقبل أن تفكر بإجابة وجدت روهان يسحبها معه مجدداً، ذهب بها إلى الحانة، لكنه لم يجده هناك، ثم توجه إلى غرفته، ما إن اقترب من الباب حتى خرج مارون، ليجد روهان يمسك بكتفيه بقوة.

- مارون! هل أنت بخير؟

نظر مارون حوله بذعر، وهتف:

- سيدي ما الخطب؟

تنفس روهان بعمق، وأفلت عن قبضته، ثم نظر مارون نحو نورس متسائلاً، حينها خرج صوت روهان وبنبرة غامضة:

- لنتحدث في الداخل.

فتح الباب ودلف، تبعاه، بينما يبدو على مارون الحيرة، لم ينتظر كثيراً حتى نظر روهان نحوه بجدية مخيفة وقال:

- جنيات الهيكب تسكن هذا المكان!

تجمد مارون مكانه من هول الصدمة، ودب في الغرفة الصمت، الجو أصبح بارداً وقاتماً، ما إن سمعت نورس بالاسم ارتعد جسدها على الفور، وأحكمت على قبضتها الصغيرة المرتجفة بقوة، وما هي إلا لحظات حتى حلق ظلٌ كالسهم على الحائط وما إن اقترب من النافذة حتى انفجر الزجاج نحو الداخل، تأهب كلاً من مارون وروهان بسل سيفهما، حين أخذ الظل يتشكل بهدوء كسائل لزج يتمدد ويتقلص حتى حتى تشكل جسد امرأة ذو قرنين صغيرين وذيل طويل ينتهي برأس رمح كبير، ما إن فتحت عيناها حتى سطع شعاع ذهبي ابتلع الغرفة، ثم ظهرت عيناها الذهبيتين المرعبتين بين جسدها الأسود اللزج، ما غن اكتملت هيئتها حتى نظرت نحو نورس التي تجمدت من الذعر، عيناها تتلألآن بدموع مكبوتة، كشفت عن أسنانها الذهبية اللامعة، اقتربت منها ورفعت يدها التي أخذت تقطر من ذلك السائل الأسود اللزج، وضعت يدها على وجه نورس الشاحب، وهتفت:

- عزيزتـــــــي! مضى وقت طويل!

بدا على كلٍ من مارون ورهان الذهول، احركت يدها اللزجة نحو عنقها، ولمست بأصابعها اللزجة مكان حنجرتها، بينما انكمش وجه نورس من الألم، ابتسمت وسألت ساخرة:

- هل تبلين جيداً دون حنجرتك؟

أخذت تضغط على جيدها، حتى أتى سيف روهان وفصل بينهما:

- ابتعدي عنها!

طارت بسرعة ككرة مطاطية ثم تشكل جسدها على الجانب الآخر، استعد مارون لمهاجمتها، حين هاجمته بكتلة لزة من جسدها، فاصطدم بالحائط.

- مارون!

صرخ روهان بذعر، ثم وجه سيفه نحوها، صك أسنانه بغضب وقال بعصبية:

- كيف لكِ معرفة نورس؟

رفعت يديها اللزجتين ورفعت رأسها وصدحت ضحكة هستيرية مرعبة، ثم نظرت نحوه بعينها الحادتين، وقالت ساخرة:

- هل تريد أن تعرف؟

ثم نظرت نحو نورس التي أصبحت شفافة من شدة شحوبها، وهتفت:

- ألا يجب أن تخبريهم بذلك يا عزيزتي؟ آه نسيت .. لم تعودي تملكين صوتاً!

وأخذت تضحك بجنون، اغرورقت عينا نورس بالدموع، وازداد غضب روهان، هرع نحوها بسيفه وصرخ:

- أيتها الـ ...

وبطرف عين كانت تحركت بعيداً، وفي رمشة عين كانت تقيد نورس من الخلف، عض روهان على أسنانه، وارتسمت على وجهها ابتسامة خبيثة وهي تمسك جيد نورس بأطراف أصابعها الطويلة، ثم قالت:

- إن أردت يمكنني أن أعيد صوتها.

وقف كلاً من مارون وروهان مذهولين، كاد يمنعها لكن ضوءً ذهبياً شع من بين أطرافها منعهما من الرؤية، ما إن اختفى حتى سقطت نورس على الأرض وأخذت تسعل بقوة، هرع روهان نحوها، أخذت يهزها، وصرخ بقلق:

- نورس!

لكنها استمريت بالسعال، أمسك بكتفيها وسحبها نحوه، شهقت من بين سعالها:

- قا .. ئد ... رو ... ها ... ن!

ثم بصقت من السائل اللزج من فمها، تجمد مكانه من هول الصدمة، استمرت نورس بتقيؤ المادة اللزجة خرجت ضحكة الجنية الهستيرية مجدداً:

- هاهاهاها، هل تتذكرين الآن؟

ثم احتدت عيناها وخرجت منها صوت مرعب:

- أم ما زال علي تذكيرك؟

أمسكت نورس بعنقها، بينما أخذ ينتفخ وخرج منه ضوء ذهبي، ترآت أمامها صورة ذلك المشروب المخضر الداكن وفقاعات الهواء تخرج منه، ويدا والدتها وهي تقترب بالكأس من الفتاة التي تجلس على السرير يمتلئ وجهها بالعرق وهي تشهق من الخوف، ثم خرجت صرخة مدوية تماشت مع الضوء الذهبي يشع في الغرفة وينطلق نحو السماء ثم يتلاشى، ليجد روهان نورس بين ذراعيه جثة هامدة، جسدها شاحب رقيق كورقة في مهب الريح. دوت ضحكت الجنية بالأرجاء، ما زاد من غضب روهان، شعر بدمه يغلي داخله، كشر عن أسنانه، وميض أحمر خرج من عينيه، وأحاطت بجسده هالة حمراء تتقد شراراً، جعلت محيط الغرفة مرعباً، تجمد كلاً من مارون والجنية مكانهما من هول الصدمة، هالة مرعبة تسري في جسديهما، رغبة قوية متعطشة للدماء. همس مارون:

- سيدي!

 وبسرعة البرق هم روهان نحوها وبضربة واحدة شق جسدها نصفين وتلاشى السائل اللزج في الاتجاهين كينبوع حار، ركض مارون بسرعة نحو نورس، وأخذ يحملها بعيداً، تناثر السائل اللزج في الأرجاء ولكن سرعان ما تحركت كل بقعة منه لتتجمع، وقبل أن يتكون جسدها، ضرب روهان سيفه المثقل بالهالة الحمراء الدامية وتمزق جسدها إلى كومات أصغر من السائل اللزج وسرعان ما أصبحت حمراء مضيئة وتلاشت بعيداً، حتى أثقل الهواء بيراعات حمراء مضيئة ملتهبة واختفت.

اقترب روهان من مارون الذي يمسك بنورس بين ذراعيه، خطواته ثقيلة، عيناه فارغتان، جثى وأمسك نورس من بين ذراعيه وحملها، جسدها ناعم غض، والدفئ الذي يخرج منه يشير أنها لا زالت على قيد الحياة، لكنها خفيفة كالريشة بالكاد يشعر أن بين ذراعيه شيئاً.

بقي مارون صامتاً طوال الطريق، امتطى روهان خيله وأسند رأس نورس على صدره، وضرب لجام الحصان ليركض الحصان على عجل، وما إن خرجوا من القرية تهادت خطوات الحصان، ولكن الصمت يخيم بينهما، أراد مارون أن يتحدث ولكنه كلما فتح فمه ورأى تعبير وجه سيده الفارغ تراجع للخلف، وشعر بالحزن، حتى خرج صوت روهان أخيراً وقطع الصمت:

- سنعود إلى الأكاديمية!

مسحة حزن على نبرته الباردة، لكن ما إن سمع مارون كلماته حتى فتح عيناه على واسعهما، وسأل بعفوية:

- أمتأكد من ذلك؟

لكن عدم إجابته جعلته يتراجع ويقول:

- أجل!

...

عودة للوراء


في حديقة غناء، ترصع الأزهار أرجاء المكان، الشمس مشرقة، وفراشات ملونة تطير في الأرجاء، بينما أصوات العصافير تعزف ألحاناً متناغمة، تتربع طاولة خشبية من الفضة، وحولها تجلس سيدة جميلة، تجلس قبالتها فتاة صغيرة بوجه بشوش، بينما تشير نحو الكتاب الذي بينهما.

- ماما!

هتفت الطفلة متسائلة:

- هل حقاً سنحتظ بالأزهار إن وضعتها داخل الكتب هكذا؟

ضحكت السيدة ثم صفقت يديها بمرح، وقالت:

- لمَ لا نجرب!

دهشت السيدة لعبوس الفتاة، فسألت:

- ما الخطب؟

فقالت الفتاة:

- لكنها لن تكون جميلة كما كانت وهي متفتحة.

ارتسمت على السيدة ابتسامة خفيفة تلقائية، ثم اقتربت وأمسكت بيدا الفتاة الصغيرة، وهمست:

- لكنها ستحمل الرائحة نفسها وهي متفتحة.

هتفت الفتاة بذهول:

- حقاً!

فأرمأت السيدة بإيجاب، وربتت على رأس الطفلة، حين ظهر ظل وأعتم المحيط، لتظهر سيدة رزينة، تبدو على ملامحها الوقار والجلاء، نهضت السيدة الشابة بسرعة وانحنت احتراماً، وفعلت الفتاة الصغيرة المثل، نظرت السيدة نحو السيدة الشابة ثم نظرت نحو الطفلة الصغيرة، بدت السيدة الشابة متوترة لتحديق السيدة بالفتاة الصغيرة، ثم قالت:

- صاحبة الجلالة، متى سوف تباشرين بالأمر؟

ارتعدت شفتيها، ثم تمالك نفسها وأخفضت رأسها:

- ألا يمكننا أن ننتظر حتى تكبر الفتاة قليلاً؟

- أكثر من ذلك؟

تساءلت باندهاش:

- الكونتيس على وشك لفظ أنفاسها الأخيرة، إلى متى يجب أن ننتظر، ألم تنسي أن ذلك الدواء هو السبب في وصولك لهذا المكان.

أشاحت السيدة الشابة نظراتها في محاولة للتهرب، فتنهدت السيدة وقالت:

- تذكري ليس لدينا الكثير من الوقت! علينا أن نحافظ على إرث العائلة.

- فهمت!

خرج صوتها بارداً، وانطفئ بريق عينيها، انحنت السيدة وانحت السيدة الشابة بدورها، بينما تجمدت الفتاة الصغيرة مكانها مندهشة، وسألت:

- ماما!

استقيظت السيدة على صوت ابنتها، فعادت الابتسامة على وجهها، حين أردفت الطفلة:

- ما الأمر؟ لم خالتي روزي غاضبة؟

تلاشت ابتسامة السيدة، ثم نظرت نحو الطفلة، ثم صفقت بيديها بمرح وهتفت:

- لا عليكِ يا صغيرتي، ربما هي متوعكة، من يريد أن يتناول المثلجات الآن؟!

انبسطت ملامح الفتاة وقفزت نحو والدتها بسعادة، وهتفت:

- أريد مثلجات! أريد مثلجات!

وأمسكت بيد والدتها وهمتا نحو الداخل.

...

ركضت نتالي على عجل عندما وصلتها الأخبار بأن القائد الأعلى للجيش وصل، تجمعت الفتيات على الشرفات بفضول، بينما كانت كلاً من كاثرين وجولييت والقائد روهان بانتظارها.

ترجل روهان عن حصانه، حاملاً نورس بين ذراعيه، فهمت الفتيات الثلاثة نحوه:

- سيدي القائد، شكراً لك!

- هل هي بخير؟

- هل أصابها مكروه؟

- هل قبضتم على الفاعل؟

تجمد روهان بذعر من هذا الهجوم المفاجئ، ولم يعرف كيف يحمي نفسه، حتى أتى مارون وأخذ يهدأ الفتيات:

- مهلاً، مهلاً آنساتي، سنشرح الأمر بالتفصيل، الأهم من ذلك، يجب أن نسعف الآنسة.

وكأن ذلك أيقظ نتالي أخيراً، فهتفت:

- آه، احترامي سيدي، أجل رجاءً  تفضل من هنا.

وأرشدهم إلى غرفتها بينما عيون الفتيات تتبعهم، مر روهان من ليون ومساعديه لكنه لم يعرهما اهتماماً وتابع المسير مع جعل ليون يكشر عن أسنانه بغضب.

في غرفة نورس، وضع روهان نورس على سريرها بلطف، ثم همت كريستينا تتفحصها، فسأل:

- هل ستكون بخير؟

- أجل سموك

انحنت باحترام:

- هي فقط تحتاج لقسط من الراحة.

لم تتغير ملامح روهان الباردة، أخرج قلادة جيب بنطاله، ثم قدمها لها، وقال:

- أعطيها هذه حين تستقيظ، يبدو أنها سقطت منها.

أخذت كريستنا القلادة، لم تجد الفرصة لتستوعب ما يحصل حتى غادر الغرفة. سار نحو قاعة الاستقبال، تبعته نتالي على عجل، لكنه امتطى حصانه، وقال مخاطباً ليون:

- سأترك الباقي لك.

- سموك!

هتف ليون:

- هل تحاول جعلني مديناً لك!

لم تتغير ملامح روهان الباردة، وقال بالبرود ذاته:

- لولا منع الحاكم لي من التدخل، لما تركت الأمر لك، اعتبره من حسن حظك.

لم يترك له مجالاً للاعتراض حتى ضرب اللجام وأطلق العنان لحصانه، ألقى خلالها مارون نظرة خاطفة نحو ليون وتبع سيده. حينها عم الهدوء وبدأت الثرثرة تصبح مسموعة:

- آه، أليس هذا القائد الأعلى! ألا يزال شاباً!

- أخيراً سنحت لي الفرصة لرؤية القائد الاعلى!

- آآآه، أليس وسيماً~ كما تقول الشائعات!

- حمداً لله لولا أن القائد الأعلى حل الأزمة وإلا لطال الأمر.

- أجل أنت محقة!

تلك ثرثرة عفوية، لكنها جعلت ليون يشتاط غضباً.

...